هناك الكثير من الناس الذين مروا بتجارب حياتية، عادة ما يقفون أمام الأمثال الشعبية، ويرددونها، إذا عاشوا تجربة ينطبق عليها المثل الشعبي، وعادة ما تكون الأمثال خلاصة لتجارب إنسانية مر بها القائل أو مر بها غيره من الأشخاص من الذين على اتصال بهم. وقبل فترة بسيطة أرسل لي الصديق جاسم أمان، قصة أحد الأمثال التي كنت أرددها، وأستخدمه حين أرى أن هناك مؤسسات تضع على رأسها أشخاصاً ليسوا على دراية بطبيعة العمل الذي يقومون به، لأنه بعيد عن تخصصهم، أي أن التخصص في العمل هو النقطة الأساس التي على ضوئها يستطيع الإنسان القيام بعمله على أفضل وجه، فالنجار يعرف ما يقوم به، وهكذا، صياد السمك، والغواص، والبناء، كل منهم يعرف مجال عمله أفضل من الآخرين.
وليس من العيب أن أقول إنني لم أكن أعرف قصة هذا المثل من قبل، ولكني فرحت بالقصة، لأنها علمتني شيئاً ما كنت أعرفه من قبل.
تقول قصة المثل كما جاءتني من الصديق جاسم أمان: يُحكى أنّ خباز كبير في السن لديه صانعٌ شاب وكان هذا الشاب محطّ ثقةٍ للخباز المسن، ولما تقدم بالخباز المسن العمر قال للصانع الشاب: يا بُنّي لقد كبرت ولم أعد قادراً على إدارة المخبر فأنا أريد منك استلام العمل بذمة وأمانة وسأعطيك خبرة فاسمعها يا ولدي: فلكل من أهل هذا الحي عائلة وهي بحاجة إلى كمية معينة من الخبز، يا بني لا تسرف كي لا يبقى عندك بقايا خبز واعمل لكل عائلةٍ على قدرها لا تزيد ولا تنقص رغيفاً واحداً. أمّا عنّي أنا فأنا أريد يومياً أربعة أرغفة أنا وزوجتي العجوز ومبارك عليك المخبز بما فيه.
بعد فترة من استلام المخبز أعاد الشاب حساباته في توزيع الخبز، فوجد أنّ الخباز المسن هو وزوجته لا يحتاجون إلا لرغيفين يومياً فأصبح يرسل لهما رغيفين عوضاً عن أربعة.
وبعد فترة وبينما الشاب يجول في سوق الحي يريدُ شراء دجاجة استغرب أنّه لا يوجد في الحي أي دجاجة، وعاد ليزور الخباز المسن الذي أصبح راقداً في الفراش لا يقوى على الحركة.
دخل بيت الخباز لأول مرة في حياته ووجد زوجته العجوز تطعم دجاجةً واحدة وكان لديها قن كبير يتسع لـ 20 دجاجة فقال لها: ما هذا يا خالة أين باقي الدجاج؟ قالت: منذ 40 عاماً وأهل الحي يشترون من عندي الدجاج، ولكن كما ترى لا قوّة لي بشراء الحنطة والقمح من السوق وأعتمد على الأرغفة التي ترسلها لنا فأجفف رغيفين كل يوم للدجاج ونأكل أنا وزوجي رغيفين، وحينما قلّ ما يأتيني من خبز لم يعد يكفينا مع الدجاج، فأصبحت أقلّل من إطعامهم حتّى بدأ عددهم يتناقص إلى دجاجة ادخرتها لنا فلا أستطيع إنتاج دجاج للبيع، لقد حرمت أهل الحي من الدجاج من أجل حساباتك الخاطئة! فأعطي الخباز خبزه لو أكل نصه؟!
ويقول ناقل القصة: وهذا المثل بالعامية «أعط الخبز للخباز ولو أكل نصه»، مثل دار في جميع الأقطار العربية، يحضنا على أن نعترف بذوي الخبرة والفضل والكفاية، ويقابله في أمثلة العرب: «أعط القوس باريها»، لأن بري القوس فن لا يحذقه إلا من أوتي المران فيه، وقال الشاعر:
يا باري القوس برياً لست تحسنها
لا تفسدنها وأعط القوس باريها
وفي بعض البلدان ينطق: أعطي الخباز خبزه لو أحرق نصه.
وإذا كانت لديك خبرة الخباز، هنا يكون عامل هذه الخبرة هو الفيصل بينك وبينه، وإلا حتماً ستحرق جميع الأرغفة وسوف ينام الحي كله بلا عشاء.
إن قيمة هذا المثل في تصوري هو قانون علينا أن نعرف أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، حتى نستطيع التغلب على الكثير من مشاكلنا التي نمر بها، ونضع الرجل المناسب في المكان المناسب، حتى تستقيم الأمور، وتسير الحياة كما أراد الله أن تسير. وإلا سنكون كما قالت المرأة العجوز، زوجة الخباز. لقد حرمت أهل الحي من الدجاج من أجل حساباتك الخاطئة!! «فأعطي الخباز خبزه لو أكل نصه».