قد ينتاب المجتمع الأكاديمي الشك في جدوى صياغة خطة استراتيجية للجامعة في ظل طغيان قانون الزخم المؤسسي «Institutional Interia» حيث يتمثل ذلك في إبقاء القديم على قدمه وترسيخ الثبات «Stability» والاستقرار في البرامج الأكاديمية ونمط العمل والشراكات الدولية.

نلاحظ عند تأمل مؤشرات العلوم والتقنية والابتكار في المنطقة العربية أن مركز الثقل «Center of Gravity» يقع في منطقة الخليج العربي منذ حوالي عقدين نظراً لكثافة الاستثمار في البيئة التحتية في مؤسسات البحث العلمي مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية «KAUST»، ومدينة الملك عبدالله للعلوم التقنية «KACST»، ومدينة مصدر، ومؤسسة قطر، وجامعة الخليج العربي في البحرين.

ولعل في مبادرة جامعة الخليج العربي في البحرين لإعداد الخطة الاستراتيجية للفترة 2017-2021 بعض الدروس في الابتكار المؤسسي والتي يجدر بنا توثيقها من أجل بناء المعرفة وتعزيز ثقافة الابتكار في الجامعات ومن أجل بناء إقليم الابتكار. وفيما يلي أهم مقومات الجامعة المبتكرة التي يجب تأملها من أجل تطوير إقليم الابتكار في دول مجلس التعاون الخليجي:

أولاً: الابتكار هو محور التعليم والبحث العلمي: يمثل الابتكار في التعليم الجامعي المحرك الرئيس لتجديد المنهاج وطرق التدريس ومنهجيات البحث والشراكات العلمية وخدمة الصناعة والتمويل المبتكر من خلال المجتمع «Crowd Sourcing» والتسويق للخدمات الجامعية من مراكز الاستشارات والبرامج المتخصصة لخدمة المجتمع. وهذا الابتكار في الجامعة يتركز على تطوير الحوكمة وآليات صنع القرار وتنمية الإحساس بالمسؤولية المجتمعية ورفد المجتمع بالأفكار الجديدة والمبادرات المبتكرة لزيادة الفاعلية والكفاءة وتحقيق التعليم من أجل المواطنة والاستدامة بمعناها الشامل. والابتكار في الجامعات يشمل كافة نشاطات وخدمات الجامعة وأسلوب العمل والشراكات والتمويل.

ثانياً: نوعية التعليم أولوية: التميز والابتكار في التعليم يمثل ميزة تنافسية وقيمة مضافة لاستدامة التعليم الجامعي. وهذا يتطلب الاستثمار في البيئة التحتية من مكتبات حديثة والتشبيك بين الجامعات وتوفير مصادر التعلم والبحث والتركيز على الأبحاث المشتركة عبر البرامج المختلفة «التقنية، المياه والبيئة، والتعليم والابتكار». ويتطلب إدارة للمعرفة والمعلوماتية ونظم الاتصالات وتقنيات التعليم في عصر إنترنت الأشياء «Internet of Things» والثورة الصناعية الرابعة التي تربط الإنسان بالآلة. أي أن الاستثمار في رأس المال البشري والاجتماعي والفكري يتحقق من خلال جودة التعليم والتحسين المستمر.

ثالثاً: التعليم الجامعي في خدمة الأولويات الوطنية وخطط التنمية المستدامة: إن شعار التعليم والابتكار من أجل التنمية قابل للتحقيق ويجب تعزيزه في التخطيط للتعليم العالي من خلال إنشاء مراكز دراسات مستقبلية وتحليل السياسات العامة والتنبؤ المستقبلي للتقنية «Foresight Technology» والاستشارات لقطاع الصناعة والقطاع العام والخاص. ومن المهم البناء على الإسهامات السابقة للجامعات مثل جامعة الخليج العربي في تطوير الخطط الاستراتيجية والمشاركة في برامج هيئة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية في القضايا العالمية مثل التغير المناخي والمياه والبيئة والصحة العامة والتعليم عن بعد وبرامج الموهوبين. إن فكرة المنتزهات العلمية «Science Parks» تقوم على ربط الجامعات مع الصناعة للعمل على تطوير الصناعة وتوليد قيمة مضافة للمجتمع والاقتصاد ويجب ربط الجامعات بالصناعة وبالسياسة العامة للتنمية وبسياسة الابتكار الحكومي والوطني لتحريك عجلة التنمية في المشاريع الإنتاجية والصناعات الكبرى والحيوية.

رابعاً: الجامعة وتمكين قيادات المستقبل: إن إشراك الطلبة في عمليات التخطيط الاستراتيجي ضروري وله دور في تعزيز الانتماء للمؤسسة ولمشروع التنمية والرؤية الوطنية. إن صياغة القيادات الشابة والواعدة وتنمية بيئة وثقافة الحوار والتفكير الناقد وبناء الحوكمة الطلابية عبر النشاطات غير المنهجية والتبادل الثقافي والزيارات العلمية، يمثل رصيداً «للمستقبل عندما يتخرج الطلبة ويشكلون رافداً» للجامعة على صعيد المعرفة والعلاقات المؤسسية. إن التعليم من أجل المواطنة يمكن تنميته عبر مبادرات الجامعة في خدمة المجتمع والعمل الإنساني والتطوعي.

خامساً: الشراكات العلمية والبحثية الإقليمية والعالمية وفرص العمل في مراكز البحث المتميزة في دول مجلس التعاون الخليجي:

إن التحالفات العلمية والبحثية «Research Alliance» أضحت ممكنة ولا بد من استثمارها للحاق بالركب وتحقيق قفزة تقنية «Leap Frog» في البحوث المرتبطة بحاجات العالم العربي ودول مجلس التعاون مثل الطاقة المتجددة وتحلية المياه والصناعات التحويلية والزراعة الملحية والزراعة بدون تربة والصحة العامة وتطبيقات البرمجيات المختلفة. لكن يجدر بنا تحديد أولوياتنا البحثية الوطنية ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال. إن الاستثمار في استدامة الشراكات العلمية يكون عبر مشاريع علمية استراتيجية من خلال الشراكات مع الصناعة والقطاع العام والمؤسسات الدولية.

سادساً: الاستدامة المالية: إن اتساع مفهوم الاستدامة المؤسسية للجامعات يتعدى التمويل ليشمل الأداء المتوازن للمؤسسة والتي تشمل البعد المالي، والعمليات، والخريجين، والتعلم المؤسسي. وينبغي فهم حاجات الجهات المستهدفة «الطلاب، ووزارة التعليم العالي والملحقيات الثقافية والسفارات» لتحقيق أهداف الخطة. كذلك من الأهمية بمكان تعزيز التعلم المؤسسي والذي يتضمن التعلم من التجارب العالمية في الإدارة الجامعية وإدارة مراكز الاستشارات وبيوت الخبرة «ThinkTanks» وإدارة الأصول الثابتة وصناديق الادخار وصناديق البحث العلمي والوقف للبحث العلمي وبراءات الاختراع وحاضنات الأعمال والابتكار والعلاقات مع الخريجين «Alumni» لتحقيق الاستدامة المؤسسية والفكرية.

خلاصة القول، إن الابتكار المؤسسي في الجامعات يكمن في تحويل الأهداف الاستراتيجية إلى مؤشرات أداء ولبرنامج عمل تنفيذية، وهذه عملية مركبة وتتصف بالتكيف والاستجابة والحوار والمشاركة في تحديد الأهداف والبرامج والنشاطات والمبادرات المبتكرة. والأهم من ذلك هو تجذير ثقافة المتابعة والتقييم والمساءلة والتجديد والابتكار بشكل دوري حتى نتمكن من التحول إلى مجتمع واقتصاد المعرفة ونخرج جيلاً «يمتلك ثقافة الابتكار من أجل التنمية والازدهار».

* رئيس قسم الابتكار وإدارة التقنية - كلية الدراسات العليا - جامعة الخليج العربي - البحرين