الكثير يتحدث عن صعوبة تربية الأبناء والتحديات التي يواجهونها أثناء مراحل تربيتهم العمرية وصعوبة اتخاذ القرارات عنهم، ولذلك نرى أن الكثير من الآباء يتحملون نتائج تلك القرارات التي يتخذونها في مواقف مختلفة لما لها من دور مؤثر في تشكيل شخصيات أبنائهم المستقبلية. فكم منا انتقد طريقة تربية إخوته لأبنائهم وممارسات وطرق تربية أبيه وأمه حينما كان صغيراً ليدرك اليوم أن ما كان يراه آنذاك غير صحيح يمارسه الآن مع أبنائه.

يسأل الكثير منكم عن نمط أو نموذج للتربية المثالية ليكون الجواب بعد بحث ودراسة عميقة أن الموضوع أكبر بكثير مما نظن فلا نستطيع أن نضع نهجاً للتربية وليس بإمكاننا أن نربيهم كما تربينا وعلى ما كنّا عليه فهم ولدوا في زمن غير زمننا، هذا ما يؤكد عليه كتاب «الأرض الجديدة « للكاتب «إيكهارت تول» والذي بين فيه وظيفة الأب والأم من دون أن يحولها إلى دور، وألا تنعكس هُوية الآباء على الأبناء صورة طبق الأصل، وألا يبالغ الآباء في وظيفتهم فيتحول واجب إخبار الطفل بما يفعل وبما ليس عليه فعله إلى السيطرة مما يؤدي الى استمرار لعب دور الآباء حتى بعد أن يكبر الأبناء وتصبح حاجة الأبوين بالتوجيه حاجة لا يستطيعان التخلي عنها حتى في وقت استقلالية أبنائهم.

كم منا يردد على أبنائه أنه يعرف الأفضل لهم، وأن مصلحتهم هنا وليست هناك؟! نعم الكثير منا يرددها حتى عندما يكبر الأبناء لدرجة أن بعضنا يصاب بالإحباط عندما يرفض أبناؤه البالغون أن يمتثلوا لرغباته فيكون رده عليهم باللوم وربط العبارات بالمشاعر والأحاسيس التي تخدم الحفاظ على سيادة وهُوية الآباء، إلى جانب ظهور بعض الرغبات من الآباء في تحقيق الأحلام والطموحات التي خذلتهم ظروف الحياة في تحقيقها لأنفسهم فيطمعوا أن يحققوها من خلال أبنائهم وأن يكونوا مستقبلاً أشخاصاً مهمين فأحياناً نراهم يوجهون لهم عبارات مثل «أريدك شخصاً مهماً يتحدث عنك الناس».

وإذا ما تعمقنا في هذه الجمل نجد لها بعداً آخر فهي تحمل معنى «أريدك أن تكون شخصاً مهماً لأكون شخصاً مهماً هذا أقل شيء تقدمه لي لأنني ضحيت من أجلك الكثير»، وعندما يأتي رد الأبناء مغايراً وغير متوافق مع رد الآباء مثل لا أريد أن أحقق ما لم تحققوه ولكن أريد أن أحقق ما خلقت من أجله ويجعلني سعيداً، هنا يبدأ الصراع والابتزاز العاطفي وربطه بالبر والرضا لإذعان الأبناء لرغبات الآباء.

كيف نربي أبناءنا إذاً وكيف نحافظ على كينونتهم؟!

إن وجودنا مع أبنائنا يجب أن يكون مجرداً من دور التركيز على الواجبات المدرسية وتناول الطعام وفروض الصلوات، بل يكون التركيز على كينونتهم وذواتهم لنحافظ على علاقتنا بهم من خلال الالتفات إلى الابن والنظر إليه كما هو عليه، وأن نسمعه بكل شغف ونشعر بوجوده معنا ونكون معه بأرواحنا وعقولنا وأجسادنا وكياننا.

إن أولادنا في أمس الحاجة إلى مساحات كافية كي يحققوا أنفسهم، وأن اعتقادنا بأننا أعلم منهم بما فيه الخير والمستقبل المشرق لهم هي أفكار غير صحيحة صالحة لمرحلة الطفولة فقط وعلينا التنازل عنها شيئاً فشيئاً كلما كبروا، وقد يكون ما نراه أحياناً خطأ ينفعهم ويساندهم في المستقبل ويصقل شخصياتهم في بعض الأحيان ويخرج مواطن الإبداع فيكونون متميزين.

إن صور بر الآباء لأبنائهم يأتي بمنحهم استقلاليتهم والاهتمام بعقولهم ومواهبهم ورغباتهم الشخصية وعدم تكرار أنفسهم في ذوات أبنائهم، فالتربية الحقيقية تكون بحضور الآباء في حياة أبنائهم بالقدوة المتزنة وبإعطائهم الفرص الكافية للنمو والتطور مادام لا يتعارض هذا مع المبادئ والأخلاق، وعليهم أن يتقبلوا سلوكهم وتوجسهم وألا يحسسوهم بالدونية. نعم نعلم أنكم تعرفون أكثر منهم بحكم أعماركم لكن عليكم احترام كينونتهم دون أن تشعروهم بالدونية.

والجدير بالذكر أن الإفراط في الاهتمام بالأبناء له أضرار جسيمة، فالمبالغة في تلبية طلبات الطفل وغياب الانضباط أيضاً يؤدي إلى تغذية الأنا وزيادة وباء النرجسية وهي إحدى صور تضخيم الأنا، فلا ترددوا أمامهم أنت الأفضل، وأنت الأذكى وأنت الأجمل فكل هذا يغذي فيهم روح النرجسية فتجدونهم نسخة من «نارسيس» الذي تكلمت عنه الأسطورة اليونانية والذي كان آية في الجمال، فعشق نفسه وأصبح ينظر إلى شكله باستمرار أثناء جلوسه بجانب البحيرة من خلال انعكاس وجهه على الماء إلى أن جاء اليوم الذي أراد أن يلمس جماله فقفز في البحيرة فغرق فيها ومات، فظهرت في مكان جلوسه وردة سميت بالنرجس فكم من هؤلاء النرجسيين الذين جاؤوا نتاج تربية غير متوازنة وضحية الإفراط في تعزيز الأنا.

إن أبناءنا جاؤوا من خلالنا ولكنهم ليسوا ملكنا، فامنحوهم فرصهم في تشكيل ذواتهم وشخصياتهم باتزان تام، فالحياة لا تعود إلى الخلف ولا تتوقف عند الماضي.