في بعض الأحيان يعجز القلم أن يعبر عما يبوح في خاطر النفس، ويعجز أن يبث مشاعره حتى يرتاح من عناء الكبت.. يعجز بأن يكتب بعض الكلمات التي لولاها لما أضحت نفوسنا تقرؤها مرات ومرات حتى تتعظ وتربي ذاتها وتتفكر في مآلها.. يعجز القلم بأن يسرد فصول الحياة التي مرت وتلك المشاهد التي أثقلت النفس، وتلك الأحوال التي بات الحليم عندها حيراناً.. يا ترى ماذا نكتب وعن ماذا نكتب وماذا نقول؟ هل عجزنا أن نعبر.. أما أن الحياة أضحت عاجزة هي الأخرى أن تخبرنا عن أسرارها وألغازها المحيرة؟ بالفعل لم نعد ندرك أهمية تلك الأوقات التي نعيشها، ولم نعد نقدر تلك النعم التي أسبغها علينا الرحمن، ولم نعد نهتم بحياتنا التي أضحت لقمة سائغة في فم «الغفلة والتخبط الأعمى» في هوامش العيش، حتى نسينا أننا سننتقل يوماً ما إلى دار أخرى غير دارنا التي نعيشها.. بالله عليكم عن ماذا نكتب تحديداً.. وما هي تلك السطور التي أبقيناها لأجيال تقرأها وتتأثر بمعانيها وتراجع نفسها وتقول: بالفعل كفى ما فات.. ولننتبه إلى ما هو آتٍ.. عذراً.. فلم يعد قلمي يعي هذه الأيام ما يدور حوله.. ولعله قرر في لحظة ما أن يبدأ تجربة جديدة يبث همومه للكون.. تعبداً لله الكريم.. نعم بالضبط هذا ما أحسسته.. وأحسست بأنه يعيد الكرة مرة تلو الأخرى بالغوص في مفاهيم نعرفها.. ولكن قد نكون غفلنا عنها.. أو وضعنها تحت أرجلنا فضاعت مع تقدم الأعمار.. فآثر أن يكتبها مرة أخرى حتى نصحو من تلك الغفلة القاتلة التي لم يفهمها البعض بعد!! بل لم يتأثر بأحوال من حوله..

رحل عنا في الأيام القليلة الماضية السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، والفنان علي الغرير وغيرهم من الأموات رحمهم الله وغفر لهم أجمعين.. وعندما نذكر أصداء الفقد لتلك الشخصيتين فإن هناك العديد من الوقفات التي يجب أن نقف أمامها، والتي كل لها الأثر الكبير في نفوسنا جميعا.. فالمرء اليوم يبحث عن تلك المشاهد التي سيصنعها والتي سيغيب عنها في يوم ما، والتي ستبقى أمام الآخرين بعد أن يغادر الدنيا.. فماذا يريد أن يكتب عنه؟ وماذا يريد أن يترك حتى يشاهده الناس بعد رحيله؟ فماذا تحلم أن يقال عنك بعد عمر مديد في طاعة الرحمة.. مثل هذه الصور هو الأثر الذي يبقى في دنيا البشر بعد رحيلك، فاحرص أن تكون تلك المشاهد هي الجمال الحقيقي لعملك الصالح، وهي الصدقة الجارية التي تبقى لك باسمك المخلد حتى قيام الساعة وإن غبت عن الأنظار.. لأن البشر بطبعهم سيتأثرون لفرقاك لمراحل حياتية محددة.. وستبقى لديهم فيما بعد «ذكرى» فليكن عملك الصالح هو الذكرى الحسنة لك.. «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». اترك الأثر الجميل الآن قبل الساعات القادمة.. فلا تدري ما هي أحوالك، ولا تعلم ما هو مآلك، فاغتنم اللحظات قبل فوات الأوان. «اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». اغتنم الحياة فإننا راحلون، اغتنما في كل عمل صالح يقربك إلى الرحمن، واستمتع مع من تحب وأسعد من تحب، واصنع معهم لحظات جميلة ستتذكرها معهم في جنة باقية.. وكن فريداً في عطائك خلافة الله في الأرض، واترك عنك مهاترات البشر.. فالمولى الكريم خلقنا لعبادته فالدنيا محطة قصيرة للاختبار، ومن أجل أن نصنع جمالية ساعة الرحيل من الدنيا، ومنزلتنا في الجنان الخالدة.. فيا رب ارزقنا الفردوس الأعلى من الجنة.

التفتنا يمنة ويسرة فإذا بالناس غير الناس، وإذا بالأحوال قد تغيرت، وإذا بتلك الوسائل الإلكترونية تجزع وتسخط من «هادم اللذات».. لأنه سرق أحلامها وسرق أحبابهم على حين غرة! نعم تغيرت الأحوال.. فأضحى الناس يسخطون على قضاء الله وقدره بكلمات لا تليق أصلا بمقام «الموت» ذلك الأجل المحتوم الذي سيتذوقه كل إنسان يعيش على وجه هذه البسيطة. ونبينا صلى الله عليه وسلم يوصينا: «أكثروا من ذكر هادم اللذات ـ الموت ـ « حتى ترق القلوب وتعيش مع الله ومن أجل الله.. «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة». «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام». «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة». «فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون». «لكل أجل كتاب». «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون». «وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت». «ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون». نعم تتعدد الأسباب ويبقى الموت «واحد». إنها الساعة الحتمية التي ينتهي فيها الأجل كما قدر للإنسان، فساعات عمره قد انتهت وأسدل الستار على عمله الذي عمله في دنياه، وانتقل بعدها إلى حياة أخرى يبدأ معها رحلة الآخرة. هذه هي النتيجة الحتمية لكل إنسان.. فلماذا الجزع.. «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون».

المؤلم في أحوال الناس اليوم والمشاهد في الفترة الأخيرة أن «الميت» لم تعد له حرمة، بل الناس لم يعودوا يتأثرون بحال الميت، ويغفلون عن أنهم سيحملون على النعش يوما ما وسيكونون مكانه. «كفى بالموت واعظا». فأضحت الكاميرا تتنقل حتى إلى داخل غرفة «غسل الميت» وأضحى الناس يتسابقون «للسبق الصحفي» في تسجيل بعض المقاطع ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي لمراحل انتقال الميت إلى تلك الحفرة الضيقة.. يكفينا أن نترحم عليه وندعو له بالمغفرة والرحمة.. يكفينا أن نذكر محاسنه ونثني عليه بالخير «فأنتم شهداء الله في الأرض». فلماذا نغفل عن تلك المعاني المهمة التي يحتاجها الميت وهو في قبره.. فلا نحن استفدنا من وقتنا بتذكر المآل.. ولا قدرنا واحترمنا خصوصية الميت وأهله.. والتي قد تمتد إلى نشر مقاطع خاصة من حياته!! نحتاج أن نراجع نفوسنا، ونتذكر ذلك «الكأس» الذي سنشربه جميعا.. فهل يا ترى نرضى بأن يتبع معنا نفس الأسلوب؟؟

* ومضة أمل:

اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة ونعوذ بك من سوء الخاتمة، نسألك حبك وحب من يحب وحب عمل يقربنا إلى حبك. اللهم اجعلنا ممن طالت أعمالهم وحسنت أعمالهم يا كريم، وتوفنا يا ربنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان.