أوصله السائق لباب مقر عمله، استقبلوه عند الباب، حمل مدير مكتبه حقيبته، صعد إلى المصعد ووصل إلى مكتبه في الطابق الأخير، جلب له سكرتيره الصحف فوضعها إلى جانبه، وبادره بالسؤال: كيف هو الوضع عند «كونترات» خدمة الزبائن؟!

أجابه السكرتير بأنها مكتظة بالمراجعين وهناك ضغط على الموظفين. هنا وصلت قهوته الصباحية ووضعوها أمامه، ظل يرمقها للحظة، ثم رفع رأسه وقال لمدير مكتبه والسكرتير: الغوا جميع مواعيدي اليوم، وأية اجتماعات غير ملحة يمكن تأجيلها، ثم خلع ساعته ووضعها في درج مكتبه ونهض.

«ماذا تفعل يا طويل العمر؟!» سأله مدير مكتبه، فرد عليه بسرعة خارقة: سأذهب لأساعد الموظفين المجتهدين في الأسفل، سأجلس معهم على «كاونترات» خدمة الزبائن.

«هل نطلب العلاقات العامة والمصور؟!» سأله مدير مكتبه. فأجاب على الفور «لا دع العلاقات العامة والمصورين يقومون بعملهم الاعتيادي، واليوم بالذات لا أريد أن تلتقط صورة واحدة لي على الإطلاق، ولا أن يكتب سطر واحد أبداً عما أفعله»، تحرك خطوتين للأمام ثم وقف والتفت لمدير مكتبه وسكرتيره: «أنت والسكرتير وكل المسؤولين والمدراء الذين تحت مسؤوليتي، ولا أحد منكم أريد أن أراه ينزل إلى «الكونترات» تحت، لا أحد يلحقني إلى هناك، كلكم ستبقون في مكاتبكم».

تركهم في ذهول ومضى لوحده، ركب المصعد ونزل للطابق الأرضي، ومشى بهدوء نحو «الكونترات»، وما أن رآه الموظفون المسؤولون عن خدمة الزبائن هبوا واقفين فأشار لهم بسرعة من يده بأن يجلسوا، وانتبه لدخوله عدد من المراجعين من المواطنين فسارعوا للسلام عليه وهو المسؤول الكبير المعني بهذا القطاع الذي يخدمهم، فرد عليهم السلام وبادلهم التحية بابتسامة كبيرة، وقال: «سامحونا على الضغط الكبير اليوم، لكننا جميعنا في خدمتكم وسنعمل لأجل رضاكم».

طلب من المسؤولين عن موظفي خدمة الزبائن بأن يمنحه أحد المكاتب الفاضية لموظف في إجازة، فجلس من فوره وبدأ باستقبال المراجعين من المواطنين وبدأ بنفسه ينهي إجراءاتهم ويستمع لملاحظاتهم.

لقد أضفى وجوده في المكان الذي يتعامل مع المراجعين جواً من الحماس لدى جميع الموظفين، وخلق وجوده جواً إيجابياً لدى الناس، بعضهم حاول تصويره بهواتفهم فقال لهم وهو يبتسم: «يا جماعة لا داعي لذلك، أنا موظف حالي حال أي موظف، مهمتي خدمتكم والحرص على أن يخدمكم جميع الزملاء، وليس غريباً أن أجلس هنا، بل واجبي أن أجلس هنا وأعرف ماذا تواجهون وكيف تمرون بتجربتكم معنا، فلا داعي للصور والنشر، ولو أردت ذلك لطلبت من العلاقات العامة القيام بذلك».

انتهى يوم العمل وقد أنجزت معاملات بأرقام قياسية، وخرج جميع المراجعين وكل الرضا يملأهم، فالمسؤول الكبير كان سبباً في إيجابية العمل وتسريع وتيرته ومنع أية بيروقراطية أو إشكالات.

عاد لمكتبه فهرع إليه مدير المكتب والسكرتير وقالوا: «طويل العمر ما كان له داعي»، فرد عليهم: «بالعكس كان ضرورياً ومهماً، أنا المسؤول عن كل العمليات هنا، وحينما لا أعرف أصغر التفاصيل وما يواجهه الموظفون وما يحصل للمراجعين فأنا الملام والمقصر، ولو لم تقولوا لي بأن هناك ضغطاً كبيراً من المراجعين لما انتبهت لضرورة وجودي، فشكراً لمن نقل لي الحقيقة بدون تحريف، وسأنزل بشكل شبه يومي مع الموظفين أحرص بنفسي على سير العمل وتحقيق رضا الناس».

بعد قراءتكم لهذه القصة، كم منكم سيصدق بأنها حقيقية، وكم منكم سيعتبرها قصة من وحي الخيال؟!