كان لتفشي جائحة كورونا الأثر البالغ على حياة الناس، فتغيرت طريقة ممارستهم لأعمالهم وأنشطتهم الاقتصادية، ومنهجيتهم في التلقي والتعليم، وأثَّرت أيضاً على حياتهم الاجتماعية، وطرق التواصل فيما بينهم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى عبادات المسلمين الجماعية، فقد دُعي للصلاة في البيوت تارةً، ودعي إليها مع التباعد بين المصلين تارةً أخرى، وذلك لتلافي مخاطر نقل العدوى وانتشار المرض، وبذلك غُيِّرت هيئة صلاة الجماعة المستقرة التي درج عليها المسلمون.

ولما أفتت عددٌ من لجان الفتوى الشرعية في بعض البلاد الإسلامية بمشروعية الصلاة مع وجود التباعد بين المصلين وأخذت بها الإدارات التنفيذية للمساجد مع اختلافٍ بينها في قدر هذا التباعد، وُجِد مَن يُخَطئُ هذا القول، ولا يقبل الصلاة بهذه الطريقة بحجة أنها هيئةٌ غيرُ مشروعة، وخارجةٌ عن صورة الجماعة، وأن الصلاة فرادى في المنازل أولى وخصوصاً مع وجود الخوف من الضرر، فكان السؤال: ما المستند الشرعي والمنطلق الفقهي للقول المبيح للصلاة مع التباعد؟ ومدى تأثير هذا التباعد على الصلاة صحةً وبطلاناً؟

للحديث حول هذا الأمر ننطلق من عدة محاور، انطلاقاً من نقاط الاتفاق العامة، ثم الأدلة الخاصة.

أولاً: لا يختلف المسلمون في وجوب إجابة النداء يوم الجمعة، وفي فضيلة صلاة الجماعة، ومكانتهما في حياة المسلمين، فهما شعيرتان ظاهرتان يُجتمع فيهما لأداء أعظم عبادة عملية في أحب البقاع إلى الله وفي بيت من بيوت الله، حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَن سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ علَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بهِنَّ».

ثانياً: إنّ صلاة الجماعة تسقط لعدد من الأعذار، كأن يخاف المصلي ضرراً على نفسه أو ماله أو يكون معه مرض يشق عليه حضور الجماعة، فالحفاظ على النفوس واجتناب الأسباب المؤدية إلى هلاكها من مقاصد الشريعة، قال تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، «البقرة: 195»، ومثل هذا يتضمن معاني التيسير على العباد في عبادتهم وإزالة الضرر الحاصل عليهم أو المتوقع حدوثه.

إلا أنه يلاحظ على هذه الأعذار المبيحة إما أنها خاصة بأفراد أو عارضة سرعان ما تزول، ولا يمكن دفع الضرر الحاصل بها لحصولها غالباً دون مقدمات، كما أن أداء صلاة الجمعة والجماعة بهيئة يندفع بها الضرر أولى من تركها بالكلية.

ثالثاً: تضمنت صلاة الجماعة أحكاماً كثيرةً، ومن أبرزها، تسوية الصفوف والتراص بين المصلين بالأمر بسد الفرج، وإكمال الصفوف الأول فالأول، والنهي عن انفراد الرجل وحده خلف الصف، والأدلة في ذلك كثيرة، منها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ».

وجاء الأمر بإكمال الصفوف الأول فالأول، وعدم الشروع في صفٍ حتى يتم الصف المقدم، فعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «أتِمُّوا الصَّفَّ المُقدَّمَ، ثمَّ الَّذي يليهِ، فما كانَ من نقصٍ فليَكُن في الصَّفِّ المؤخَّرِ». أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه الألباني، ومع اختلاف العلماء حول حكم التزام هذه الهيئات بين قائل بالوجوب أو بالاستحباب، وحكم ترك هذه الهيئات، هل هي مبطلة للصلاة أم لا؟ إلا أن القواعد الشرعية العامة تقتضي أن الواجب يسقط مع العجز أو المفسدة الراجحة، وأن الضرر يدفع الإمكان، وعدم إسقاط الميسور بالمعسور، وقد قال الله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وإذا كانت الصلاة بها تخفيفات في ذاتها كالصلاة قاعداً أو على جنبٍ، فكيف بالتخفيف في أشياءَ خارجةٍ عنها، متعلقةً بأدائها في جماعة.

رابعاً: إن الأدلة الشرعية تقرر بأن الانفراد خلف الصف لا يبطل الصلاة في عدد من الصور، وإنْ لم يصلِ الأمر لحد الضرورة، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة رضي الله عنه الذي ركع دون الصف بإعادة الصلاة، وكذلك تصلي المرأة وحدها خلف الصف خشية الفتنة، ويصلي المصلي منفرداً عند اكتمال الصف المقدم، فضلاً عن أنّ الصورة الحالية للصلاة لا يمكن اعتبارها صلاةَ منفردٍ خلف الصف، لوجود من يصلي معه في صفه لكن مع التباعد.

كما أنه لا يمكننا القول بأن صورة الجماعة غير قائمة لمجرد حصول التباعد بين المصلين.

خامساً: إن الدعوة إلى التباعد والتجافي بين الصحيح والمريض دعوة شرعية، ويراعى فيها القدر الذي يتوقع فيه اندفاع الضرر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَكَ مِن الأسَدِ»، ولما كان هذا المرض لا يعرف فقد يظهر حامله بصورة الصحيح، فجعل التباعد والأخذ بالإجراءات أمراً عاماً بين جميع الناس معاملة للمتوقع مقام الواقع، وذلك إجراء مؤقت في هذه المرحلة إلى حين رفع الغمة وانكشاف الوباء.

سَادساً: إن الشريعة حرصت على أداء الجماعة حتى في أشد الأوقات وأحلك الظروف، فشرعت صلاة الخوف عند القتال، وقول الله في الصلاة، «فَإِنْ خِفْتُمْ»، «البقرة: 239»، وإن كان أصل الحكم عند قتال العدو إلا أن الخوف أعم من ذلك، وقد توسع الفقهاء في صوره بعموم لفظه لكل خوف، كالهرب من السيل أو الحريق، بل حتى من الغريم، وصلاة الخوف جائزة في السفر والحضر والفرائض والجمعة والنفل، وتصلى الصلاة بما يندفع به الخوف، وكما أنَّ أسباب الخوف مختلفة، فكذلك طرق رفعها ودفعها متعددة، وفي حالة الخوف اليوم من انتشار المرض صُلِّيَت الجماعةُ مع هذا التباعد.

وقد ذكر النووي رحمه الله بأن الأنواع التي جاءت في الأخبار لصلاة الخوف ستة عشر نوعاً، بل أوصلها بعضهم إلى أربع وعشرين نوعاً، بل قال الإمام أحمد: «كل حديث يُروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز».

ومَن ينظر في الصفات الواردة في صلاة الخوف يلحظ فيها عدداً من الأمور التي لا تكون لولا هذا الظرف الاستثنائي، منها الخروج عن متابعة الإمام، وإطالة الإمام في مواضع حتى تلتحق به الجماعة الأخرى، وإعادة الإمام الصلاة مرتين في مكان واحد، وتأخر بعضهم عن الإمام في أفعال الصلاة، والحركة بتقدم بعضهم وتأخر البعض عن مكانه.

سابعاً: هل الصلاة منفرداً في البيت خير من أدائها بهذه الكيفية؟ قد يقول قائل: لماذا لا نصلي في البيوت فرادى بدلاً مِن أنْ نعرِّض أنفسنا لخطر الإصابة بالفيروس الذي ما زال قائما، فيقال: من المقرر شرعا أن الأمر الشرعي يُمتثَل بقدر ما تندفع عنه المشقة والضرر، وقد قرر الأطباء من أهل الاختصاص بأن هذه الهيئة مع هذا التباعد، فيه بإذن الله التقليل من مخاطر انتقال الفيروس، وخصوصاً مع إضافة اشتراطات أخرى، كاشتراط التطعيم لمن يدخل المسجد، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أداء الصلاة مع الجماعة في القتال مع وجود المخاطر وقد كان من الإمكان أن يصلي كل واحد منهم لوحده.

نعم، من خاف على نفسه وخشي من حضور الجماعة لأسباب خاصة به فإنه يُعذر ويصليها في بيته، فهذه بعض المحاور حول أداء صلاة الجمعة والجماعة مع التباعد، نسأل الله أن يرفع عنا الوباء، وأن يدفع البلاء، وأن يشفي المرضى، إنه سميع الدعاء.

* باحث شرعي