يعتقد القائمون على الجامعات والمعاهد العليا في الدول العربية أن وظيفة التعليم العالي محصورة فقط على ربط مخرجات التعليم بسوق العمل، وهذه نظرة ضيقة الأفق، وترتب على ذلك تركيز الجامعات الرسمية بشكل عام والجامعات الخاصة بشكل خاص في العالم العربي على التركيز على العلوم التطبيقية والتكنولوجية والمعلوماتية وإهمال العلوم الإنسانية والاجتماعية. إن التعليم من أجل الربح يفقد المتعلمين الخيال والإبداع والتفكير النقدي لأنه يتجاهل الاهتمام بالعلوم الإنسانية.

والسبب الجوهري لهذا التوجه، هو أن بعض المسؤولين على الجامعات العربية معظمهم ذوو ثقافة أجنبية، فلا يولون للجامعة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع دوراً في بناء ثقافة المجتمع المدني وخاصة في الجامعات الخاصة التي تولي الربح المادي أولوية على أي مهمة للجامعة تكسب المتعلم القيم والشعور بالانتماء لوطنه، وفي ذلك تقول الباحثة زينب أبوزيد في المؤتمر الذي عقدته كلية الآداب بجامعة الملك سعود بعنوان «العلوم الإنسانية أكاديمياً ومهنياً: رؤى استشرافية» أبريل 2014:

«تقع العلوم الإنسانية في الجامعات العربية في موقع أدنى من العلوم التطبيقية والطبيعية والرياضية التي تُكسِب الطالب المهارات والمعارف التقنية، ولهذا السبب فإن الكليات المتخصصة في العلوم التطبيقية كالطب والهندسة وتقنية المعلومات تحظى دائماً بإقبال كبير، وتولي لها الجامعات العربية الاهتمام الأكبر وكشفت أن السبب وراء هذه النظرة للعلوم الإنسانية يرجع للفهم القاصر للعلم ورسالته وأهدافه، وحصر قيمة العلم في إنجازاته التطبيقية».

كيف نتصور جامعة تهمل الجانب الإنساني عند المتعلم بتجاهلها علوماً مثل الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة التي تنمي التفكير النقدي عند الطالب، لقد تجاوزت الجامعات الغربية هذه النظرة الضيقة وأصبحت أقسام العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ من أكبر الأقسام العلمية.

الجامعات العربية بوضعها الحالي تقدم معرفة علمية مبتسرة غير متكاملة، حيث إن الجامعة لا بد أن تقدم معرفة متكاملة للمتعلم علمياً وروحياً واجتماعياً لبناء الشخصية المتكاملة عنده. ومن ناحية أخرى لا يكون للعلم دور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بدون العلوم الإنسانية والاجتماعية، مثلاً نحن بحاجة إلى خريج الجغرافيا الذي يتمتع برصيد معلوماتي متنوع ومتكامل عن خصائص الإقليم الذي يخطط لتنميته، فهو يمتلك فكراً متطوراً ورؤى متكاملة ومهارات فنية وبحثية وميدانية متنوعة، وأن الجغرافيا لم تعد مجرد وصف للمعالم بل أصبحت نظاماً معرفياً مركباً، لذا من الصعوبة أن تجد التنمية فرص النجاح دون أن يكون للجغرافيا دور فيها.

ولذا لا غرابة في أن نجد من الخريجين الجامعيين من يفتقدون هذا البعد في شخصياتهم، فقد نجد بعض الأطباء أو المهندسين أو الإداريين بدون قيم إنسانية مثل التعاطف، والانتماء، والتضحية، والتواصل مع الآخرين.

نحن نريد من جامعاتنا تخريج شباب متعطش للقيم الإنسانية، لديه شعور بالانتماء للوطن، ينبذ التعصب والكراهية للآخرين، متسامح، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون أن نزرع في هؤلاء الشباب هذه القيم في الوقت الذي نقوم فيه باقتطاع العلوم الإنسانية والاجتماعية في مناهجنا الدراسية في مرحلتي التعليم قبل الجامعي والجامعي. وهنا تؤكد الباحثة مارتا نوسباوم في كتابها «ليس من أجل الربح: لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات؟ بقولها: «إن هناك فرقاً بين التعليم من أجل الربح الذي يتسم بقصر الرؤية والتعليم من أجل المواطنة الذي يتسم بالرؤية المستقبلية والعلوم الاجتماعية، والإنسانيات تدعم النوع الأخير وتكسب المتعلم صفات وقدرات من شأنها أن تجعله مواطناً بناءً محلياً، وأن التقصير في إعداده بهذا الشكل يعرض مستقبل المجتمع للخطر».

فلا غرو حينما تنشأ في المجتمع جماعات من الشباب المتطرف دينياً وفكرياً أمثال جماعات الدواعش والقاعدة والنصرة، التي لم تشرب تعاليم الإسلام الصحيحة ولا العلوم الإنسانية والاجتماعية، يقتلون الأنفس ببرودة أعصاب، وينشرون الخوف والهلع لدى الآمنين، ويظهرون ذوي شخصيات عدوانية تتسم بالتعصب، ويشوهون صورة الإسلام السمحة والمعروفة بالاعتدال والتسامح مع الديانات الأخرى. كم نحن بحاجة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تغرس التعاطف والمحبة في نفوس الجيل الحالي من الشباب الذي يعاني من الغربة في مجتمعه. وعليه نلوم أنفسنا عندما نوجه التعليم العالي إلى تخصصات معينة ونهمل تخصصات أخرى كالعلوم الاجتماعية والإنسانية والتي هي محور بناء الإنسان الذي هو بدوره ركيزة خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحور الرؤية المستقبلية، فهل نعي ذلك؟