ثروة الفِكر والبشر لا تنضب والإبداع لا ينبع من باطن الأرض
لست مع إلغاء الكليات النظرية فأصل المعرفة نظري
القطاع الخاص شريك في القرار وليس مستثمراً على الهامش
لدينا فرصة عمر لاستقطاب 20 - 30 ألف طالب إضافي
أطالب باقتصاد معرفي وإنتاج التكنولوجيا وتوطينها محلياً


التعليم الأكاديمي أصبح قناة استثمارية مهمة، تم تثبيت دعائمه وقواعده، مثله مثل أي قطاع اقتصادي آخر، له مردود وله أسس، لديه مريدون وواجبات ومسؤوليات ومساهمون، لم يعد مجرّد قلعة علمية، أو رسالة مرعية، أو كليات نظرية أو عملية، لكنه أيضاً هدف ليس تجارياً بمعناه الدقيق، وليس ربحياً مثلما يرى أصحاب الرسالة المخضرمين، لكنه فرصة استثمارية مواتية للقطاع الخاص، منصة لتوظيف الأموال والأعمال، منارة يرتقي عليها المتخصصون في العلوم والآداب والفنون، مركز إشعاع للبحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة، وعلوم الحياة المعاصرة وتلك التي تحاكي المستقبل.
«الوطن» فتحت ملف الاستثمار في التعليم مع رائد التعليم الأهلي البحريني الرئيس المؤسس رئيس مجلس أمناء الجامعة الأهلية البروفيسور عبدالله الحواج، عن دور القطاع الخاص في هذا المضمار الاستثماري الصعب، ليس بوصفه بروفيسوراً أو أنه من أوائل الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه في مملكتنا الحبيبة البحرين، إنما كونه مؤسساً لأول جامعة خاصة في المملكة، وأول من نادى بإدخال هذا الفكر من خلال ترؤسه لقطاع التعليم بعد أن تم اختياره بقرار سام من حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، باعتباره ممثلاً عن قطاع التعليم ضمن اللجنة العليا لميثاق العمل الوطني قبل أكثر من 23 عاماً، وفيما يلي نص الحوار:

لقد تحدثت أكثر من مرة عن كيفية أن يكون التعليم جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد، الآن وبعد مرور أكثر من 20 سنة على الاستثمار في قطاع التعليم الأكاديمي، ومن خلال تجربتك كمؤسس لأول الجامعة الأهلية قبل نحو 23 سنة، كيف ترى الاستثمار في التعليم الأكاديمي الآن؟
- مراراً وتكراراً تحدثت وفي أكثر من حوار عن الاستثمار في التعليم، وكنت ومازلت أرى أن التعليم هو جزء أساسي من اقتصاد البحرين، عنصر مهم ودافع قوي لتمويل القيمة المضافة والارتقاء بالمخرجات الأساسية، وتعظيم المردود منها ودعم موارد الميزانية العامة للدولة، وارتأيت ضمن ما ارتأيت أن مختلف مؤسسات الدولة لابد وأن تتعاون فيما بينها، خاصةً تلك التي ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتعليم، الهجرة والجوازات والإقامة مثلاً، السياحة، الاقتصاد، هيئة جودة التعليم والتدريب، مجلس التعليم العالي طبعاً الذي لا يدخر جهداً مع وزارة التربية والتعليم في سبيل الارتقاء بعلوم المستقبل داخل مختلف جامعاتنا خاصة كانت أم حكومية.
كثيراً ما نتحدث عن تنويع التنويع لمصادر الدخل، فأقمنا الصروح المالية والمصرفية والتأمينية، وأصبحنا منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي مركزاً مالياً عالمياً مهماً بربط الشرق بالغرب والعكس، تماماً مثلما احتضنا نحو 500 مصرف ومؤسسة مالية محلية وإقليمية ودولية لنصبح مثلما كنا مؤسسين للتعليم النظامي في المنطقة مرتكزاً لنقل الأموال بين الأمريكتين وأوروبا والشرق الأقصى.
أصبحنا على منصة التنويع الدولة الأكثر تأثيراً بعد أن اكتشفنا أن النفط مصدر ناضب، وأن ثروة الفكر والبشر أبداً لن تنضب، وأن الخَلق والإبداع لا ينبعان من باطن الأرض لكنهما يتخلقان بدعوة مباركة من السماء، وبإصرار وإرادة من يعيشون تحت هذه السماء.
الرؤية ومعطياتها
إذا كنت ترى جدوى اقتصادية مؤكدة في الاستثمار بالتعليم، ما هي معطيات هذه الرؤية؟
- بكل تأكيد أكثر من عامل تؤهل مملكة البحرين لكي تكون مركزاً تنويرياً مُطلعاً على علوم المعرفة والتقنية والتعليم المتقدم.
العامل الأول: أن مملكة البحرين تحتضن في الوقت الراهن أكثر من 20 جامعة في دولة لا يتجاوز عدد سكانها 1.5 مليون نسمة.
العامل الثاني: التاريخ والتشريع وتوفير الاعتمادات المحلية والإقليمية والدولية لمختلف جامعاتنا وبرامجها ومناهجها وكلياتها.
العامل الثالث: الإبداع في تقديم هذه البرامج وربطها بسوق العمل نظراً لما تمتلكه تلك الجامعات من أساتذة عالميين على أعلى درجة من التمكن في نقل العقل الجامعي من المحلية إلى فضائيات السنوات الضوئية البعيدة.
العامل الرابع: توفير بنية معلوماتية واتصالاتية وتكنولوجية وأسواق مفتوحة على كل الدنيا إلى جانب التشريعات والأنظمة واللوائح التي تضمن الاعتراف الأكاديمي الإقليمي والدولي بشهادات خريجينا سواء في مرحلة البكالوريوس أو مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
العامل الخامس: وجود شعب مضياف بطبيعته نظراً لأنه ينتمي إلى جزيرة، والمعروف أن أهل الجزر مشهورون بإنسانيتهم وكرمهم ووفادتهم وحسن استقبال الغريب وإكرامه كأنه في بيته، علاوة على ارتفاع نسبة المؤهلين من المتعلمين في مختلف المجالات.
أخيراً: وجود جسر الملك فهد الذي يربط بين مملكة البحرين والشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، لما تتمتع به من عمق سكاني وجغرافي والتحام وشائجي مع شعب مملكة البحرين ومواطني الدول الخليجية الأخرى.
هذا يعني توفر فرصة عمر قد لا تتكرر لاستقطاب ما بين 20-30 ألف طالب إضافي من مواطنين ومقيمين في دول المنطقة بجامعاتنا البحرينية، وهو ما يعني ضخ أكثر من مليار دولار سنوياً في شرايين الاقتصاد الوطني، ذلك أن الوصول إلى هذه الأعداد ليس صعبًا مع وجود هذا العدد الكبير من الجامعات، وتلك المناهج والكليات التي تحاكي احتياجات الطالب أينما كان وحيثما حل.
التوازن لا الإلغاء
رغم ذلك هناك أصوات في المنطقة تطالب بإلغاء الكليات النظرية، ما رأيك؟
- لابد من التوازن في كل شيء، لا يجب أن نكون مغالين في خططنا أو رؤانا، لا ينبغي أن نواجه أي شيء أو أية معضلة بالإزاحة أو الإزالة أو الإلغاء، لابد من توفر ثقافة التوازن، التقييس قبل اتخاذ القرار، المواءمة عند إجراء أية مقارنات أو عندما يتعرض أحد القطاعات لمشكلة «ما»، المعالجة قبل البتر أحياناً، هذا ما يضعنا دائماً على المحك، على اقتصاد قائم على المعرفة وليس قائماً على العشوائية، وهنا أخاطب كل الأجهزة المعنية من أجل المساهمة في تسويق جامعات مملكة البحرين بالمنطقة والخارج، وأن يكون لدينا وعي بأهمية الهدف الذي نسعى إليه، بضرورة إيجاد خطة عمل واضحة معنونة بهدف ومُدرجة على توقيت زمني محدد، أن نكون مؤمنين بأن البحرين يمكنها النجاح في مسعاها نحو أن تصبح قبلة للسياحة التعليمية، مرتكزًا للاستثمار في المعرفة وإنتاجها وتوطينها، من يرى بإلغاء التخصصات النظرية يخطئ كثيراً، ذلك لأن المعرفة تقوم على النظرية بحد ذاتها، بل هي النظرية بحد ذاتها، من هنا لابد من التكامل بين النظري والعملي، بين التطبيقي والتلقيني، بين السردي وذلك القائم على الخلق والابتكار والتجريب.
قرارات شجاعة
وهل ترى أن هناك بالفعل تشجيع للقطاع الخاص من أجل الانخراط في الاستثمار بالتعليم؟
- مما لا شك فيه أن التوجه السائد الآن واضح وضوح العيان من أجل الاستثمار في التعليم، تشجيعه، دعمه، تقديم التسهيلات له، هذا ما نلمسه من صناع القرار ومن الواقع الذي بين أيدينا الآن، فقط مثلما قلت نحن نحتاج لمزيد من القرارات الشجاعة التي تجعل القطاع الخاص شريكًا في القرار والعمل، وأن تكون الدولة مشغلاً للقطاع، هي الرقيب والحسيب، هي التي تضع الخطط والاستراتيجيات بالمشاركة مع القطاع الخاص، والقطاع الخاص يقوم بتنفيذها، هي التي تراقب والقطاع الخاص هو الذي يعمل بجد واجتهاد واحترام للوائح والقوانين، لذا أصبحت الدول المتقدمة متقدمة أكثر، وتلك التي تعاني أقل معاناة من ذي قبل.
فرصة ذهبية
في الماضي بدأنا التعليم النظامي قبل أكثر من قرن زمني وكذلك احتضنا أول مصرف توازياً أو تزامناً مع أول مدرسة نظامية هي الهداية الخليفية، وها نحن اليوم تأتي إلينا الفرصة مواتية لكي تصبح مملكة البحرين مركزاً للتعليم المتقدم حتى تعود لها مكانتها التاريخية بين شقيقاتها في دول مجلس التعاون الخليجي، ذلك أن البحرين أصبحت مؤهلة مثلما أشرت من النواحي كافة سواء من توفر للبنى التحتية والتشريعية، علاوة على طيب الإقامة وتوفر الجامعات المذهلة، بالإضافة طبعاً إلى حصول المملكة على مؤشر عالمي متقدم جدًا فيما يتعلق بالإقامة المريحة، وهي كلها عوامل جاذبة للطلبة من أي مكان بالمنطقة.
توجه محمود
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت مملكة البحرين مؤهلة لكي تصبح مركزاً للتعليم المتقدم بالمنطقة، وأن استثمارات القطاع الخاص في هذا المجال أصبحت مجدية، فهل تشجع ذلك التوجه الذي دعت إليه إدارة سوق البحرين للأوراق المالية بتسجيل أسهم جامعاتنا الخاصة بالبورصة المحلية، حتى لو لم تتحول إلى شركات مساهمة عامة، على أن تُسجَّل كشركات مساهمة مقفلة في الوقت الحاضر؟
- هذا توجه محمود جداً، وأنا أكبر المشجعين لتسجيل الجامعات بأسهمها الراهنة في سوق البحرين للأوراق المالية، لأن ذلك سوف يترجم حقائق الأمور في هذه الجامعات، تماماً مثلما سيؤدي بل ويعكس واقع الحال الذي تتمتع به الأوضاع الإدارية والعلمية والمالية في هذه الجامعات.
يسعدني أن تتحول جامعاتنا الخاصة لتصبح مؤسسات عامة تُدار بعقلية اقتصادية، على أن يتم تحديد حقيقي لقيمتها الاقتصادية في السوق، بالإضافة إلى تمكينها من الحصول على التمويل اللازم في حالة التوسع وتشييد الصروح العلمية والتعليمية.
لا ضرر ولا ضرار
وهل أنت مع فكرة قيام مؤسسات مستقلة لرعاية البحث العلمي، مثل مركز قومي للبحوث خارج نطاق الجامعات، أو مركز لإنتاج المعرفة مثلاً والتقنيات الحديثة؟
- بالتأكيد نعم، لا ضرر ولا ضرار في أن تكون لدينا مراكز بحوث عامة أو خاصة أو مشتركة داخل أو خارج الجامعات، تماماً مثلما أشجع أن تلعب الجامعات البحرينية دوراً وطنياً مثل الذي لعبته الجامعات الكورية عندما نهضت بشركة هيونداي لتصنيع السيارات بعد تعثرها، وذلك من خلال البحث العلمي الفارق الذي أعاد للشركة الكورية هيبتها في الأسواق الدولية وأصبحت منافساً قوياً بل ومتفوقاً على الكثير من السيارات المثيلة التي تسير بكفاءة على الأرض.
نحن نشجع البحث العلمي والباحثين في الجامعات، حيث يوجد لدينا باحثون لا يقل مستواهم بل يتفوق على نظائرهم في الجامعات العالمية، لكن ذلك يحتاج أيضاً إلى تشريعات، إلى لوائح وقوانين منظمة، شركات إنتاج المعرفة أو توطينها أيضاً، لابد من خلال بروتوكول تأسيس ولوائح فاعلة.
توطين المعرفة
قرأنا لك في أكثر من مقال وأكثر من حوار عن ضرورة توطين المعرفة وإنتاجها محلياً بدلاً من استيرادها واستهلاكها، هل يمكننا ذلك؟ وما هي الشروط الواجب توفرها هنا؟
- التحول من مستهلكين للحضارة إلى منتجين لها ممكن اليوم مع وجود هذا الكم الهائل من الجامعات المعتمدة دولياً، هذا هو ما أشعر به بفخر وعن قناعة، خاصةً أن الجامعة الأهلية مثلاً يوجد لديها العديد من العلماء المعترف بهم عالمياً، مثل أفضل عالم رياضيات في العالم لعام 2023 وفقاً للتقييم الصيني الأخير، تماماً مثلما يوجد لدينا أفضل الباحثين العرب في مجالات الإدارة والمال، وتكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا المالية «الفنتك»، تماماً مثلما يوجد لدينا باحثون دارسون على مستوى الماجستير والدكتوراه في تخصصات معتمدة وأعدادهم بالمئات كبحرينيين ومن الدول الشقيقة المجاورة، بالإضافة إلى أن الجامعة الأهلية تمكنت خلال سنة واحدة فقط من نشر نحو 150 بحثاً محكماً ومنشوراً في مجلات علمية عالمية مُحكمة، كل ذلك وأكثر يمكن أن يؤدي إلى وضع مملكتنا الحبيبة في مكانتها المأمولة علمياً واقتصادياً بعون الله.