عماد المختار

كان تأسيس المنظمات الحقوقية الدولية منطلقا للذود عن حقوق الإنسان الكونية، واستبشر العالم منذ إعلان مبادئ حقوق الإنسان بعقلانية القانون وموضوعية الأحكام المستقلة عن الأهواء الشخصية وتنازع المصالح الدولية.. وتفاءل البشر خيرا بمنظمات حقوقية دولية ومحلية تراقب أوضاع حقوق الإنسان بحرفية ومهنية، وبشكل متساو بين الدول والأجناس والأعراق، بما يحفظ في النهاية حق الإنسان وكرامته وحريته، كما تحترم سيادة الدول وأمنها القومي والإقليمي والعالمي.

فالمنظومة الحقوقية حسب ما يؤكده الخبراء والنشطاء الحقوقيون تأسست جميعها على أساس مبادئ ومرجعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الصادر في 10 ديسمبر من العام 1948)، وأن المنطلق الأساسي لتأسيسها هو الذود عن حقوق الإنسان الكونية ومقاومة كل خرق للعهد الدولي لحقوق الإنسان، وتصون حقوق الإنسان في كل أصقاع الدنيا.



وتشير القوانين الأساسية للمنظمات الحقوقية لاسيما الدولية منها، ومنها منظمة العفو الدولية " أنها منظمة حيادية، ديمقراطية ذات حكم ذاتي مستقل عن جميع الحكومات، والأيديولوجيات السياسية، والمصالح الاقتصادية، والمعتقدات الدينية".

وجاء في تعريف "منظمة مراقبة حقوق الإنسان" أو "هيومان رايتس واتش" أنها منظمة دولية غير حكومية، ومن أهدافها الدفاع عن حقوق الإنسان واحترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك احترام جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأن المنظمة الحقوقية تنشط المنظمة في العديد من المجالات منها: أنشطة العمل المجتمعي، والتعليم الصحة، حقوق المرأة، حقوق اللاجئين، المهاجرون، البيئة، الأسلحة، حرية التعبير، العدالة الدولية، حقوق المعاقين، التعذيب، الأعمال، الأمم المتحدة.

انحراف المنظومة الحقوقية

إن هذه المبادئ السامية التي تحملها المنظمات الحقوقية، انحرفت في بعضها عن قانونها الأساسي وانزاحت عن أهدافها المحددة، إذ يرى الخبراء الحقوقيون والسياسيون والنشطاء الاجتماعيون أن ارتباط المنظمات الحقوقية الدولية بالمنطلقات السياسية والدبلوماسية، قلص من نبل نضالاتها وبرر الحذر والتوجس الكبيرين من مواقفها وبياناتها، وهو ما طرح سؤالا عن حقيقة المصداقية والموضوعية، وعن انتقائية الملفات وسرعة التقارير.

إن بعض هذه المنظمات الحقوقية انزاحت عن القصد الحقوقي وجعلت تقاريرها انتقائية مسيسة وموجهة، تمس أمنها القومي وتثير نعرات طائفية أو عرقية داخلها، وتعطل تنميتها، بما تحدثه من تشويه مقصود، ودعاية رخيصة. فصارت تمنح تقاريرها وملفاتها الحقوقية لبعض الدول الكبرى التي تحظى برضاها وتخضع لهواها وتعمل تحت إمرتها، وهو أمر يتعارض كليا مع ما تنادي به في مواثيقها، في مثل قولها: "عندما فقط يتم الإفراج عن آخر سجين رأي، وعندما فقط يتم إغلاق آخر غرفة إعدام، وعندها فقط يصبح الإعلان العالمي واقعا ملموسا لشعوب العالم، سنكون إذن قد أنجزنا عملنا"، فهل ناضلت مثل هذه المنظمة بنفس القدر للدفاع عن "كل" سجين رأي؟ أم أنها لا توزع نضالها بنفس العدالة على شعوب الأرض؟

وتحدث الكاتب البحريني سعيد الحمد عن وثيقة للخارجية الامريكية «2008» تقول بالحرف الواحد «سيتم التمويل عن طريق المنظمات غير الحكومية بدل الحكومة الأمريكية مباشرة لحماية المموَّل (أي الطرف الذي يستلم التمويل)، ولما في ذلك من خطورة على السفارات»، وفي نفس الوثيقة نقرأ «اختيار فريدوم هاوس كمنفذ لعملية التمويل حيث أثبتت نجاحها في بلدان اكثر تحدياً»، وفي نفس الوثيقة نقرأ ما يلي «اتفاق بين فريدوم هاوس ومنظمات غير حكومية أخرى على إخفاء أسماء من يتم تمويلهم»، وتضيف الوثيقة «يجب انتقال المال من يدٍ إلى أخرى لإخفاء بصمات الحكومة الأمريكية في عملية التمويل» وتختتم الوثيقة بهذه السطور «تعاقد فريدوم هاوس مع مقاول أمن ووضع إجراءت أمنية بما في ذلك تبادل المعلومات عن طريق قنواتِ مشفرة»..!. (من مقال بعنوان "منظمات حقوقية أم منظمات مشبوهة" بتاريخ 11 / 03 / 2013).

معايير مزدوجة

وكثيرا ما حذر خبراء سياسيون وحقوقيون من ازدواجية في معايير تقييم حقوق الإنسان وخاصة في تعامل هذه المنظمات مع دول عربية بعينها، بناء على رؤى وأجندات خارجية، في كل المحافل الدولية، في أروقة مجلس الأمن، وفي مدراج الأمم المتحدة، لكن لا حياة لمن تنادي. فكم تجاهل مجلس حقوق الإنسان بجنيف قضية الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني من مرارة الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني، وكم تاجرت أميركا بحقوق الإنسان مع دول عدة لخلفيات سياسية أو اقتصادية، أو عرقية، أليست هي من اشترطت في بنود اتفاقية الانسحاب من العراق «أن يمتنع الشعب والدولة العراقية من مقاضاة السلطات والجنود الأميركيين عن جرائمهم وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان إبان فترة الاحتلال لأراضي العراق، وذلك في المحاكم العراقية والدولية على حد سواء»!.

وتساءل المراقبون أين كانت منظمات حقوق الإنسان عندما استبيح أمن الفلسطينيين واستهدفت بيوتهم بأطنان القنابل الإسرائيلية؟ وأي دور لمنظمات حقوق الإنسان من في تدمير الدولة العراقية وإلهاب نار الطائفية فيه؟ أماذا فعلت منظمات حقوق الإنسان نحو وسائل التعذيب التي اعترفت بها «سي آي إيه» لسجناء غوانتانامو، ولسجناء أبو غريب بالعراق والتي سببت صدمة للمجتمع الأميركي نفسه. ولماذا تختفي تلك التقارير التي تدين إسرائيل على جرائم عديدة في الأراضي الفلسطينية؟ أين التقارير التي تضغط على إيران لوقف تصفية المعارضين، ولماذا لا يطالب الخبراء الحقوقيون بوقف تدخلها في سوريا، ووقوفها وراء عمليات التهجير لاعتبارات طائفية ومذهبية؟ أسئلة كثيرة ظلت بلا جواب.

ويشير رئيس مجلس إدارة مركز جنيف لحقوق الإنسان والحوار العالمي، د. حنيف حسن القاسم، أن دول الخليج على سبيل المثال، لديها تطور هائل في مجال التنمية وحقوق التعليم والصحة والمرأة، لكن هناك ضعفاً شديداً في إبراز هذا الرصيد بمجلس حقوق الإنسان، لذا حرص المركز على رصد المشاركات العربية أولاً، وتقييمها، ثم عقد ملتقى للسفراء العرب لعرض النتائج، ومناقشتهم في كيفية تلافي هذا السلبيات، وإعداد التقارير، ومساعدة الدول العربية في مراجعة التشريعات المتعلقة بهذا الملف، فضلاً عن تدريب المحامين والدبلوماسيين وطلبة الجامعات على التعاطي مع هذا الملف.

ويؤكد الباحث السياسي، د. هاني نسيرة أن وضع حقوق الإنسان في الدول العربية ربما لا يكون كاملاً، لكنه ليس بالسوء الذي تصوره بعض التقارير المشبوهة في عناوينها أو "الناعمة" في لهجة خطابها، والتي باتت واضحة في استباحة أمن دول محددة، وتتجند لها وسائل إعلام محلية أو إقليمية أو دولية من وقت إلى آخر بمثل هذه التقارير مرة بعنوان "تقصي الحقائق" وأخرى بعنوان "انتهاكات حقوق الإنسان"، ما يجعل توجهاتها نواياها مثيرة للريبة والشك وتدس السم في العسل. فهل أن الأمن القومي للدول الغربية يجيز التجاوزات الحقوقية، فيما الأمن القومي للدول العربية لا يجب أن يوظف لاعتقال شخص أو تفكيك تنظيم يمارس العنف أو يحرّض عليه؟

ويذكر الحقوقي سلمان ناصر أن المؤسسات الحقوقية لاسيما منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لديها ازدواجية في التعاطي مع الملفات الحقوقية، إذ أنها في الوقت الذي تصدر فيه 8 تقارير عن البحرين تجدها تصدر عن سوريا والعراق 5 تقارير، بالرغم من التفاوت الكبير في تدهور الحقوق الإنسانية. وكان مندوب دولة الامارات العربية المتحدة في جنيف السفير عبيد سالم الزعابي قد عبر عن أسفه لتجاهل المفوض السامي لحقوق الإنسان جهود مملكة البحرين في إيجاد أرضية توافقية لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بالنسبة لكل الأطراف، معتبرا تركيز المفوض السامي على السلبيات وحدها من شأنه أن يعطي صورة خاطئة يمكن لجهات أخرى توظيفها لجعل الوضع في البحرين أكثر تعقيدا.

الحالة البحرينية

إن البحرين رغم أنها تقدم نموذجا متميزاً للتعايش والتسامح والوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والعلاقات المباشرة المفتوحة بين شعبها وقياداتها، ظلت مستهدفة من منظمات حقوقية مشبوهة، من خلال التأثير على أعضاء اللجنة المعنية بمناقشة تقرير المملكة حول التزاماتها بشأن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وفق ما كشفه عبدالله بن جبر الدوسري مساعد وزير الخارجية البحريني. فمثل هذه المنظمات الحقوقية المشبوهة لا تريد أن تتفهم أن المملكة ملتزمة، كشريك في الحرب على الإرهاب، وكل دول العالم اتخذت إجراءات مشددة لمراقبة المجموعات المتشددة ومنع وقوع العمليات الإرهابية قبل تنفيذها، فلماذا يراد لدول بعينها أن تقف مكتوفة الأيدي تحت وقع محاذير حقوق الإنسان ولا يُطلب هذا الأمر من غيرها.

فمن الصعب الحديث عن حقوق الإنسان خارج منطق المصالح والحسابات الدولية، ولذلك غالبا ما تأتي التقارير التي تصدرها المنظمات الحقوقية الكبرى موجهة ضد دول من العالم الثالث، وخاصة الدول العربية التي تتمسك بمعادلة تربط بين الحريات والأمن القومي

وكان الأمر الملكي رقم (46) لسنة 2009 بإنشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان تأكيدا على أن معايير حقوق الإنسان أدرجتها البحرين في جميع إجراءاتها ودليل حرصها الدائم على سن تشريعات تحترم الإنسان. وكان تأسيس كرسي باسم الملك حمد في جامعة لاسبينزا روما لتدريس الحوار والسلام بين الأديان. فالبحرين مافتئت تثبت للعالم باتت من أفضل نماذج التعايش الديني في العالم بفضل ترسيخ التسامح والحوار، واحترام حقوق الإنسان. ألم تحصل البحرين على مراكز متقدمة في مجال الحرية الاقتصادية بحسب التقارير الصادرة أخيرا، مثل التقرير السنوي الذي أصدره معهد فريزر بشأن الحرية الاقتصادية لعام 2013، حيث جرى تصنيف المملكة في المركز الثامن دوليا والمركز الأول من بين دول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تصنيف المملكة في المركز الثاني عشر دوليا من ناحية الحرية الاقتصادية، بحسب مؤشر مؤسسة هيرتاج ووول ستريت جورنال لعام 2013.

ألم تبين دراسة قامت بها مصارف «إتش إس بي سي» العالمية على سبعة آلاف مغترب في 37 دولة لمعرفة أفضل البلدان التي تناسب عيش المغتربين بها، وتصدرت لائحة البلدان الـ34 الصين وتايلاند وتلتهما مملكة البحرين حيث حلت في المرتبة الثانية، والأعلى في الشرق الأوسط، من حيث المزايا المعيشية الجيدة التي يتمتع بها المغتربون.

ووفق استطلاع كل عام «إنترناشيونز»، أجرته بشأن المكان المفضل للأجانب للعمل والإقامة مع الأسرة، وهي شبكة تضم 2.8 مليون وافد - فقد تم تصنيف البحرين في أعلى المراتب العام 2017، وفي دراسة استقصائية شملت 13 ألف مغترب ينتمون إلى 166 جنسية، تجاوزت الدول المجاورة لها في الخليج العربي وفي دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا، حيث هاجم المقيمون في بريطانيا الوضع الاقتصادي وخاصة وضع الجنيه الاستراليني الضعيف، وارتفاع التضخم، فيما كانت النظرة سلبية بشان تكاليف المعيشة لا سيما عدم القدرة على تحمل تكاليف السكن. ويرى 72٪‏ من الوافدين في الولايات المتحدة أن تكاليف الرعايا الصحية لا يمكن تحملها في الوقت الذي تحتل فيه الولايات المتحدة المرتبة 50 من حيث تدابير الصحة والرفاهية.

إن هذا الحياد في المنظومة الحقوقية المشبوهة والمسيسة أو المؤدلجة، والتي تعمل بانتقائية، ووفق أجندات موجهة، وصارت تستهدف أمن دول بعينها، تحت المظلة الحقوقية، أمر يُطلب ولا يُدرك، لأنها غارقة في وحل السياسة والتمويل والتوجيه من دول بعينها ضد دول أخرى، فقد ذكر بعض النشطاء أن دولا مثل إيران استثمرت في بناء مجموعات ضغط مقربة منها في الغرب، سواء داخل المنظمات الحقوقية أو في وسائل الإعلام الدولية النافذة، فيما اختارت الدول العربية أن تقابل الحملات الحقوقية بالصمت، والسعي لإثارة الدوائر التي تقف وراءها، خاصة أن المعركة كانت تجري بعيدا عن أنظار مواطنيها. ولكن أسلوب الصمت والهروب من مواجهة مجموعات الضغط، لم يعد ممكنا الآن، حسب الخبراء الاستراتيجيين بعد أن صارت المعركة وفق اعتقادهم مفتوحة وتصل إلى الناس في كل مكان بفعل الإعلام الجديد، ولذلك صار لزاما بناء استراتيجيات إعلامية قوية محليا وإقليميا ودوليا تنهض بدورها الاستشرافي.