يتبوأ المنبر الديني منذ فجر الإسلام مكانة خاصة متميزة في الوجدان والثقافة الإسلامية، وهذا أمر تشترك فيه مكانة المنبر الديني لدى بقية الأديان الرسالية أو الغنوصية، التوحيدية وغير التوحيدية. دلالة على أهمية الخطاب والخطابة في ذاكرة الشعوب بغرض التوعية الدينية والتثقيف والإبقاء على شمعة الدين متقدة كرافد أساسي للقيم العليا فضلاً عن تسهيل شؤون العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وفهم عقائدهم.

الخطاب الديني لا يختلف من حيث البنية عن بقية أنواع الخطابة سواء السياسية أو الأدبية وغيرها، فأي خطيب يستخدم أدوات ومنهجية معينة غايتها إقناع المخاطبين بمحتوى الخطبة، يقترح الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» بأن أي خطاب له منطق داخلي وارتباطات مؤسسية. المنطق الداخلي لأي خطاب هو الفكرة أو المعلومة المراد تمريرها، أما الارتباطات المؤسسية فهي تتحدد بالنطاق المعرفي المأخوذ من السردية الدينية، كالمحددات الأصولية العقائدية أو الفقهية.

لتقريب الصورة، المنطق الداخلي لأي خطاب يشبه الفيلم السينمائي بمكوناته: كالقصة والحبكة الدرامية والإخراج الفني.. الخ، بينما الارتباطات المؤسسية تلعب دور الشاشة التي يعرض عليها ذلك الفيلم. الأهمية تكمن في تلك الخلفية التي يعرض من خلالها الخطاب الديني، وهو مفهوم شفاف غير مرئي أو مسموع لكنه يفهم من السياق العام ويكشف عن ماهية توجهات الخطيب. ومن أهم أهداف الخطباء التأثير على مشاعر الجماهير وتمرير رسالة معينة قد تكون معلومة جديدة أو تفسير لآية قرآنية أو رواية أو سرد تاريخي أو مناقشة قضايا مجتمعية وغيرها من الأغراض المعرفية، ولا يلعب هذا الدور إلا متحدثون جيدون يمتلكون المهارات المطلوبة في تحويل الخطاب الديني إلى طاقة عاطفية تكسب التأييد وتسهل تمرير المعلومة المطلوبة.

لذلك من المهم أن يشتبك الجمهور معرفيا مع الخطيب بغرض تطوير الأداء وزيادة المعرفة، وهذا يقتضي ضرورة امتلاك الفرد لأدوات التحليل المنهجية، المنطقية والنظرية اللازمة ليكون ذلك الاشتباك موضوعيا ومفيدا، الأمر الذي يتطلب تطوير ذاتي بالاطلاع والقراءة والمثابرة في طلب العلم. لأن قصر مصادر المعرفة وحصرها فيما يقدمه المنبر الديني يعني الاكتفاء بالسردية الدينية على أنها المصدر الوحيد للمعرفة، التي على أهميتها إلا أنها تشكل جانب يسيرا من المعرفة الإنسانية للستة آلاف سنة الأخيرة من عمر الإنسان على وجه الأرض وبداية تكون الثقافات والحضارات الإنسانية. خصوصاً أن هدف الجميع زيادة الوعي الذاتي للفرد بالشكل المأمول لمواجهة التحديات الثقافية والعملية. فعندما تستمع لخطاب ديني تذكر أهمية أن تتعرف على البنية المعرفية المشتغلة في الخلفية لهذا الخطيب أو ذاك، فالأهمية وجوهر الغايات تكمن هناك.