: أم عبدالله لا تاخذين مشاريع فوق طاقتك، خلصي مشروع وابتدي بالثاني

: ما عليييه يا أم بسام كله مقدور عليه

: بس لا وقتك يسمح لإنجازها ولا متوفر عندج التبرع الكافي لها

: بتتدبر.. ربج ما يقصر

: يمكن تتلخبط أوراقك ومستنداتك انتبهي وخلي المدقق معاج أول بأول علشان لما تقدمينها لوزارة العدل تكون متطابقة بين الوارد والمصروفات.

: لا تحاتين يا أم بسام كله في السليم

وتضحك ضحكتها الطفولية.

الآن عرفت لماذا كانت رحمها الله تسابق الزمن وهي تساعد المحتاجين، إنه الإلهام، إنه ذلك الشعور الذي لا تعرف كيف يلح عليك بأن وراءك شيئاً ما، عليك أن تكون جاهزاً له.. إنه يومك، ويا لحظك يا أم عبدالله أعددت العدة لمثل هذا اليوم فلا خوف عليك ولا أنت ممن يحزنون بإذن الله.

لطيفة الهاجري أم عبدالله أو بنت الهاجري يعرفها فقراء البحرين، فعدد البيوت التي رممتها كثير، وعدد الاحتياجات التي لبتها والتي تراوحت بين أجهزة طبية وأدوية وسيارات لمعاقين وعدد الغارمين الذين ساعدتهم بقضاء ديونهم كثير، وعدد المرضى وعدد الأرامل واليتامى الذين أطعمتهم وفواتير الكهرباء التي سددتها وإيجارات متأخرة دفعتها.

كانت على ثقة بقدرتها على جمع المبالغ التي يحتاجها أي مشروع حتى لو كانت كبيرة، كثيراً ما تجادلنا أنا وهي بأن المبلغ كبير لهذا المشروع، فتقول لي «لا تحاتين سيتوفر بإذن الله»، وفعلاً في أقل من أسبوع يكتمل المبلغ، ما أن تعلن عنه وتقسّمه إلى عدة أقسام، وكل يوم تكتب في حسابها اليوم نبدأ بإذن الله في القسم الأول، وما إن ينتهي اليوم إلا والمبلغ المطلوب قد اكتمل، كانت لها طريقة في تحفيز المتبرعين لا تملك إلا أن تستجيب لها.

شبكة علاقاتها العامة واسعة، والثقة بها كبيرة، كانت تصور جميع مشاريعها في جميع مراحله ثم تصوره بعد أن تنتهي وتضعه في حسابها على الإنستغرام، فيعرف المتبرع أين تذهب أمواله، وتصور الفواتير وتنشرها.

تعلَّمَت على تطبيق الإكسل، وهي التي لا علاقة لها بهذه المواضيع، وحضرت ورش عمل ودورات كي تعرف كيف تُنظِّم عملها وكيف تكون حاضرةً لأن متطلبات واستحقاقات التدقيق لحاملي تراخيص جمع الأموال كثيرة ومُتعبة، وحين تشتكي لي كنت أقول لها «ما عليه يا أم عبدالله تحمّلي لأن ذلك من شأنه أن يعزز مصداقيتك أمام المتبرعين».

والمرحومة تحمّلت الكثير الكثير من تبعات الريادة الأولى، فهي صاحبة أول ترخيص ساعدها وزير العدل السابق الشيخ خالد بن علي في إصداره مشكوراً، وفي تجاوز العديد العديد من إجراءات بيروقراطية مملة وسمجة تتمسك بحرفية القانون لا بروحه وبجوهره.

هي أول من عانى من «روح وتعال» وتوقيع فلان، وموافقة علان، شهور إلى أن صدر الترخيص، وحسابها هو أول المرخّصين الذين دققوا في أوراقهم، وتحمّلت من جديد بيروقراطية أخرى في إجراءات المحاسبة التي لا تنظر إلى المحصلة النهائية بتطابق الخارج مع الوارد.

كانت رحمها الله تمرّ على المحلات وتختار الأرخص من الأسعار، تمرّ على المقاولين والعمال، وهي التي تشتري و«تقاصص»، وهي التي تقف على رأس المقاول، تعرف أسعار الأسمنت والطابوق والألمنيوم والنجارة وتمديدات الكهرباء، وهي التي تمر على المطاعم وتنتقي أنواع الوجبات للأُسر غير القادرة على الطبخ لعجز أو مرض، ثم هي التي تصور وهي التي تُدير الحساب على الإنستغرام، أقسم بالله إنها كانت تقوم بأعمال جمعية خيرية بموظفيها ولجانها.

آخر تواصل معي قبل أسبوعين

أم عبدالله: هل متبرعو وجبات الإفطار جاهزون؟

قلت لها: ما عليج حضّري أنت قائمة الأسر وفاتورة المطاعم التي ستزودهم بالوجبة وربج بيسهلها.

اتفقنا أنه لا «كاش» بل تلبية احتياجات والدفع للبائع مباشرة، فكانت هي حلقة الوصل بين صاحب الحاجة والمتبرع والبائع، مع الالتزام بالتدقيق المحاسبي آخر السنة.

وانتظرت الردّ وتأخرت وكلّمتها لم ترد على اتصالي.

كلّمت بوعبدالله زوجها، قال لي أمس أخذتها للدكتور لأنها كانت تشتكي من آلام في جسمها، دخلت مستشفى السلام للمعاينة، واتضح أنها جلطة فنقلت بالإسعاف فوراً وتوقف قلبها ثلاث مرات وتم إنعاشها.. وبعد أسبوع فقط غادرتنا أم عبدالله مسرعة، لم نستوعب بعد غيابها وقبل أن تكتمل قائمة إفطار الأسر لرمضان.

الخاتمة

كتبت عن تلك التفاصيل بقصد بيان الفرق في الإخلاص الذي كان يحلّي عمل لطيفة بنت الهاجري في العمل الخيري دون فضل ولا مِنّة، الإخلاص الذي جعلها تعمل عن ألف رجل دون كلل أو ملل حتى توقّف قلبها، ودون بهرجة ودون أضواء، لأن مثلها من يستحق أن يتابعه الملايين.