القمة العربية الثانية والثلاثون التي عُقدت بجدة في التاسعة عشر من الشهر الحالي استثنائية بكل المقاييس بحضور لافت للنظر لأغلب الزعماء العرب، وهو نجاح للقمة في حد ذاته رغم الوجبة الدسمة التي كانت على طاولة القمة من الملفات الساخنة للقضايا العربية في ظل أوضاع دولية جديدة تمثلت في ظهور الصين كقوة دولية أنجزت الاتفاق بين السعودية وإيران والحرب بين روسيا وأوكرانيا التي تؤذن -كما قال كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق- بقيام الحرب العالمية الثالثة، نتيجة لكل هذه المتغيرات جاءت القمة كتتويج لنجاح للدبلوماسية السعودية التي تمثلت في الجهود الحثيثة التي قام بها ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الأمير محمد بن سلمان آل سعود ووزير خارجيته الأمير فيصل قبل القمة بمدة لحلحلة الكثير من القضايا العربية المجمّدة، حيث نتج عنها عودة سوريا للقمة العربية بحضور الرئيس السوري بشار الأسد، والبدء بسياسة الخطوة خطوة لحل الأزمة السورية، وعقد صلح لوقف القتال في اليمن بين الشرعية اليمنية والحوثيين وفتح حوار بين الطرفين، وعقد لقاء في جدة بين طرفي الصراع في السودان وهدنة لوقف القتال والانتقال إلى مرحلة للحوار، وفي السياق ذاته نجاح الدبلوماسية المصرية في تهدئة الوضع المتأزم بين إسرائيل ومنظمة الجهاد الفلسطينية، والهدف العام للسعودية من كل ذلك جاء في سياق كلمة الأمير محمد بن سلمان في بداية المؤتمر عندما قال: «يكفينا مع طي صفحة الماضي تذكر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة.. تكفينا الصراعات التي عانت منها شعوب المنطقة وتعثرت بسببها التنمية».

وجاء البيان الختامي للقمة لكي يشمل كل القضايا العربية، وأولها قضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية، والتأكيد على المبادرة العربية للصلح مع إسرائيل وهي مبادرة حل الدولتين مقابل الاعتراف الرسمي بإسرائيل، وضُمِّن البيان عدة قضايا أخرى تتعلّق بمختلف القضايا العربية وفي كافة المجالات الاقتصادية والثقافية والتنموية «بيان المؤتمر العربي جدة 32 / مايو».

رغم كل ذلك يبقى الحذر هو سيد الموقف حيث لاتزال بعض القضايا لا تحتمل التأجيل، وكما قال رئيس وزراء لبنان ميقاتي عن معاناة شعبه، إن تزايد أعداد النازحين السوريين بشكل كبير جداً، يجعل من أزمة النزوح أكبر من طاقة لبنان على التحمّل، من حيث بُناه التحتية، والتأثيرات الاجتماعية والارتدادات السياسية في الداخل، ومن حيث الحق الطبيعي لهؤلاء النازحين بالعودة إلى مدنِهم وقراهم، وهي عودةٌ لا يمكن أن تتحقق إذا لم تتضافر الجهود.

وبالمقابل لايزال الآلاف من الشعب السوري مشردين في كل أنحاء العالم وخاصة في تركيا ودول أوروبا يبحثون عن الآمن رغم أنهم يرغبون بالعودة لبلادهم حيث هُدمت بيوتهم ورُمّلت نساؤهم، وأطفالهم بلا تعليم وحماية.

وفي اليمن يُصادر الحوثيون الغذاء ومتطلّبات الحياة عن المدنيين في تعز وصنعاء، وكما قال الرئيس اليمني «تنعقد هذه القمة في وقت لايزال فيه شعبنا يعاني ويلات الحرب التي أشعلتها الميليشيات الحوثية منذ انقلابها على التوافق الوطني في سبتمبر 2014 بدعم من النظام الإيراني المستميت من أجل استكمال مشروعه التدميري في المنطقة مع استمرار انقسام منظومتنا العربية، وعجزها عن الاستجابة للأزمات والنزاعات المسلحة التي تهدد بانهيار الدولة الوطنية، وتجريفها لصالح المشاريع الخارجية التوسعية الدخيلة على مجتمعنا وهويتنا العربية وتراثنا الحضاري والاجتماعي».

وأهم من كل ذلك قضية العرب، وكما قال عنها أبومازن في كلمته في المؤتمر عن خطر تهويد القدس: «وكان أخطر ما أقدمت عليه الحكومة الإسرائيلية نشاطاتها الاستيطانية غير المسبوقة في القدس بهدف تهويدها وتغيير طابعها، وتكثيف الاعتداءات من قبل المتطرفين وبعض المسؤولين الإسرائيليين على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وخاصة في المسجد الأقصى، مما يهدد بتحويل الصراع من صراع سياسي وقانوني إلى صراع ديني». مثل هذه القضايا هي التي يجب حلها، والعرب قادرون على ذلك لضمان مستقبل الأمن والسلم العربي والعالمي.