مهما تغيرت الحياة وتغيرت أحوالها وظروفها وأعمار أبطالها وتعددت محطات الأثر فيها، فإنه لابد لك أن تكون تلك «القامة الفريدة» المحافظة على ثوابت أخلاقها التي لا تتغير أبداً ولا يغيرها الزمان. ويأتي على رأسها معاني «الإخاء» العظيمة التي ذكرت معانيها في القرآن الكريم، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث. الإخاء الذي لولاه لتعبت النفوس وأضحت حبيسة الجدران المظلمة. إنك اليوم في مرحلة لا يتطلب فيها أن تهدر وقتك في «الأحاديث النفسية المُرهقة» التي يتفنن أبطالها لغزو حياتك بها، بل أن تكون على وعي تام بمرحلة يجب أن تكون فيها مُقدراً لجماليات «الإخاء الحقيقي» الذي يقدر محبتك وإنسانيتك وأخلاقك الرائعة.

ومن أجمل روابط الإخاء أخوة «موسى وهارون» كما وردت في القرآن الكريم: «ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً». وقال عز وجل: «قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين». إخاء ممزوج بعاطفة المحبة الصادقة المُرهفة التي تعانق سحائب الخير، إخاء حقيقي لصدق المشاعر والتكاتف والتنازل عن شواهد الدنيا الفانية.

إخاء جميل بأن تحب الخير لغيرك كما تحبه لنفسك، وأن تكون نفسك هي الميزان الحقيقي لعلاقاتك الأخوية مع من تتعامل في مسير الحياة. فما يضايقك يجب أن تزنه بنفسك فلربما يضايق غيرك، فإسلامنا العظيم دين الرقة والجمال، ولابد أن نقيس حاجات الآخرين كما نقيسها لأنفسنا، وما أجمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه». إخاء ممزوج بشفافية المحبة الصادقة التي لولاها لعشنا في ضائقة من تقاسيم النفسيات المُتعبة.

إخاء يطهر نفسه ويُصفي قلبه من أثقال الحياة وترسبات العلاقات والنكد والحسد، فالقلوب التقية النقية الصافية الطاهرة هي لا تعرف لمنكرات الأخلاق طريقاً. ودائماً ما نستذكر ذلك الصحابي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فكان السر بأنه يبات الليل ولا يحمل في قلبه أي شيء على الآخرين. يبات طاهر القلب يصفي قلبه من كل الشوائب الدنيوية حتى يلقى الله بقلب سليم. ويقول: «اللهم إني تصدقت بعرضي على الناس وعفوتُ عن من ظلمني».

إخاء لا يشغل نفسه بمستنقع الغيبة التي أضحت صورة مقززة في الحياة قطعت أوتار العلاقات الأخوية وحرمت الآخرين من التكاتف المجتمعي. «أيحبُ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه..». صورة قرآنية تقشعر منها الأبدان لمن يتحدث عن عرض أخيه المسلم. فمن المؤسف أن تكون هذه الصورة موجودة عند نفوس لربما فيها من التقصير ما فيها، ولكنها مع الأسف لا تزن نفسها بميزان الخير الحقيقي، فتدعي الكمال وتصوّب سهام النقد اللاذع للآخرين، وهي في قرارة نفسها مليئة بتلك العيوب!!

إخاء يُقدر الكبار وخبراتهم وخطواتهم الأولى في الخير، ويُقدمهم على من سواهم في اختيارات الحياة، بل وفي محطات الأثر التي أسسوا بنيانها، ويقطر دمعهم أسفاً عند فراقها يوماً ما. فهم يجب أن يكونوا في مقدمة الصفوف أثراً وقدوة وفصلاً من فصول العطاء. الإخاء الجميل أن تمد يدك بحنو وإشفاق إلى تلك القامة التي كانت معك يوماً تشاركك لقمة العطاء وتضحي من أجل أن تثقل ميزانها عند الملك الديان الموصل إلى الفردوس الأعلى. إخاء لا يُبنى على أمزجة البشر، ولا على تقدير الأفراد لعطاء الآخرين، بل يبنى على أسس الإسلام القويم، ذلك الأساس المتين الذين لا يُربط بنزغات الشيطان المريبة.

إخاء لا يقوم على المراوغة والدسائس والمكائد، ولا على تصيد العثرات وحب السيطرة على المواقف، ولا على الكذب والخيانة، فكلها صورة قبيحة تعطل من إنجازات الحياة، وبخاصة في مجالات الخير وشواهد العطاء. دعونا نُعطي للإخاء معنى آخر، فنقدر بعضناً بعضاً، ونحترم بعضنا بعضاً، ونقبل رأس الكبير ونأخذ بيد الصغير، ونمتن لأصحاب الفضل، ونسعى لنكون بنياناً شامخاً في حياة الأثر الجميل، بجسد واحد متكامل «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

ومضة أمل

حياتنا جميلة بإخاء تنبع منه مشاعر الحب، وكلمات حانية تجبر الخواطر، وقبلة حانية على الجبين، ويد تصافح المُحبين وتشتاق للقياهم.