إن الفهم القاصر والوعي الغائب عن إدراك الضرورة الحضارية ومتطلبات اللحظة التاريخية، وكذلك عدم القدرة على التقدير الدقيق لرسالة المسلمين ودورهم الإنساني بين الأمم هي أسباب تدفع بالمتشددين إلى التسابق نحو الاشتباك مع الآخر، وخلق الأعداء في كل اتجاه حتى أصبحنا أضحوكة الدنيا وفي مؤخرة الأمم تقدماً ونهضة، ولم يعد العالم يسمع من أخبارنا إلا ما جاء بالقتل والحرق والإرهاب، بل إن كثيراً من الدوائر المتربصة بالمسلمين شغفتها هذه الجهالة فتلقفتها مسرورة بها، فنفخت فيها، ودعمتها بالمال والسلاح والزبانية، وأطلقتها تحرق الأخضر واليابس في طول البلاد الإسلامية وعرضها متلبسة بخطاب يدعي الدين والدين منه براء! بل الأعجب من كل هذا أن هؤلاء المتشددين الغلاة لا يطرأ في أذهانهم من معنى الجهاد كما أسلفنا إلا معنى القتال أو الحرب! وهو أمر يدعو إلى الاستغراب والتوجس في آن واحد! فالجهاد له أوجه عدة، فقد يكون بالنفس أو باللسان، أو بالمال، ولكن هؤلاء لا يعرفون من الجهاد إلا ما كان بالذبح أو الحرق والإرهاب مع أن الجهاد لا يأتي بمعنى القتال إلا في حالة «رد الاعتداء والدفاع عن النفس» فقال تعالى في سورة البقرة: «فإن قاتلوكم فاقتلوهم».
كما نهى الشارع الحنيف عن الغلو والتشدد فقال صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطعون» ثلاث مرات، أي هلك المتشددون الذين يغالون في دينهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنه قد أهلك من كان من قبلكم الغلو»، كما أن الدين في حقيقته هو دين اليسر والتسامح، قال تعالى في سورة البقرة: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أبو موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا» رواه مسلم.
فهل من البشارة والتيسير ما سمعناه في خطاب الذبح «لجون الذباح» مخاطباً أهل روما بينما سكينه تقطر دماً من ذبح 21 مصرياً على الشاطئ الليبي! لقد حذر الخطاب الإسلامي الصحيح من مجرد الغلظة والخشونة، فأين نحن مما أثنى به الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة النحل: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر».
إن هؤلاء قد كفروا المسلمين من دون ذنب أو سند أو دليل شرعي فوقعوا في الإثم العظيم، وارتكبوا الجرم الشنيع، يقول الإمام النووي: «اعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع». ثم قال: «وإن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، فمن يخفى عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره»، «شرح النووي على مسلم».
أما حجة الإسلام أبو حامد الغزالي فيقول «والذي يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ»، ثم يقول: «والخطأ في ذلك ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك «محجمة» من دم امرئ مسلم».
ولكن هؤلاء المتشددين الذين نفضوا من أيديهم حق الناس في الحياة وحرمة الدماء والأعراض، قد هتكوا بتشددهم عرى الدين والمجتمع، وتبنوا خطاباً يستوجب النظر إليه على أنه خطر داهم يجب دفعه ومقاومته، وعدم التهاون في منعه وكف خطره عن المجتمع.
ويشير الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم «2016» في بحثه حول «دور المجتمع في تفكيك الفكر التكفيري»، إلى ضرورة منع هؤلاء من بث سمومهم من خلال عدم تمكينهم من الدعوة إلى التكفير في مساجد المسلمين، وضرورة تمكين العلماء الثقات من ذوي المنهج الصحيح من لقاء الناس في كل مكان حتى يتمكنوا من شرح الدين الحق، وتفنيد حجج هؤلاء. «يتبع».