أسلفنا في المقال السابق بأننا سنقوم بإسقاط بعض الإضاءات على بعض القضايا التي تهمنا جميعاً من زاوية حقوقية وسأبدأ اليوم بقضية تحقيق التوازن في دولتنا المدنية بين حقوق الإنسان الفرد وحقوق الجماعة والدولة والديمقراطية وحكم القانون وتحقيق العدالة والأمن والتنمية والحكم الرشيد. وهذه القضية بدورها سيتم تناولها في سلسلة مقالات لأهمية تسليط الضوء على جوانب كثيرة منها.
ولا يسعني اليوم إلا أن أسوق المثال الأمثل للدولة المدنية التي نتوق لبنائها والتي قال فيها الله سبحانه وتعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، الأمة التي بدأ بناءها حبيبنا صلى الله عليه وسلم فرداً وحيداً، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله، حتى مضت 23 سنة من ذلكم الوقت، وفي سنة عشر من الهجرة المباركة وفي مثل هذا اليوم المبارك اجتمع حوله مائة وأربعة وأربعون ألفاً من الحجيج في مشهد عظيم، فيه من معان العزة والتمكين، ألقى الرعب والفزع في قلوب أعداء الإسلام ومحاربيه، وكان غصة في حلوقهم، مشهد يوحي بأكمل معاني النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة والعاقبة للحق ولأهل الحق العاملين المصلحين: «ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب»، «البقرة:214».
لقد سن نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم الآداب الاجتماعية والتعاليم الدينية والحقوقية والمساواة وتحكيم الروابط الأخوية والقوانين العادلة وحقوق الحاكم والمحكوم وروابط الدولة والأمة والسنن والأنظمة الحياتية والاقتصادية بإلهام من الوحي والقرآن، فكان صلى الله عليه وآله وسلم أول من وضع أسس التمدن الحضاري التي لم يقتصر أثرها على المسلمين الذين بلغوا مراتب التهذيب والكمال المعنوي فحسب، بل شملت أسس المجتمع الحر والديمقراطي إلى هذا اليوم.
فهو كما كان مصلحاً وقائداً اجتماعياً فقد كان نبياً رسولاً وزعيماً سياسياً من أهدافه أن يبعد الحرج والمشقة والعسر عن المجتمع، فيعطيهم الحريات الإسلامية الكثيرة ويحل لهم الطيبات، وينهى عن المنكرات والخبائث، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويزيل التمايز السلبي، ويمحوه من الوجود، قال تعالى في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم: «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم».
وهكذا بعدما أرسى دعائم الدولة المدنية الإسلامية بتربيته الإنسانية في الدولة الفتية واقتلع جذور الجاهلية وبذورها من النفوس حتى أصبحت الإنسانية سلوكاً بين الأغنياء والفقراء، والمهاجرين والأنصار، وأرباب العمل والعمال، وكانت حجة الوداع آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت الحرام والتي رسمت معالم عظمى في حياة الناس، وبينت أحكاماً جليلة وأحقت حقوقاً وأبطلت شروراً، وأعلنت أهم الحقوق الثابتة الراسخة إلى قيام الساعة.
وفي مثل هذا اليوم قبل ألف وثلاثمائة وأربعة وثمانين عاماً ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في يوم عرفة من جبل الرحمة خطبة نزل فيه الوحي مبشراً بعدها أنه «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً».
ففي حجة الوداع كانت اللمسات الأخيرة في إرساء مبادئ الدولة المدنية وتربية الأفراد والمجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تربية الأفراد على الإيمان والخلق الكريم وتربية المجتمع على مبادئ أساسية كالأخوة بين جميع المسلمين «إنما المؤمنون إخوة»، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض»، والوقوف بجانب المستضعفين حتى لا يكون هذا الضعف ثغرة في البناء الاجتماعي، فأوصى بالمرأة والرقيق كنموذجين عن الضعفاء، كما أكد على مبادئ العلاقة الإيجابية بين الحاكم والمحكوم، والمساواة بين البشر، حيث حدد أن أساس التفاضل قيمة خلقية راقية لا عبرة فيها لجنس، ولا لون، ولا قومية فقال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب»، وقد كرر نداءه فيها إلى الناس كافة مرات متعددة: «يا أيها الناس»، دون أن يخصصه بجنس أو بزمان أو مكان أو لون، فقد بعثه الله للناس كافة وأرسله رحمة للعالمين.
يوم عرفة أمل يتجدد في قلب كل مسلم يتذكر فيه عز الأمة ورسولها ووقفة تأمل ودروس وعبر تذكرنا بعروج الأمة إلى العلياء وبداية نهضة وحكاية نصر وإسقاط كل القيود، حكاية عزة ونصر وليست للاستهلاك الذي زاد الأمة خدراً على خدر، إنما هو عبرة وأمل، هو قصة نحكيها لأولادنا نربيهم عليها نعلمهم دروسها، وقفة مع الذات ومحاسبة للنفس يسأل كل شخص نفسه ماذا قدمت للأمة خلال عشرات السنين.
القمم العربية والغربية والأمم المتحدة وجنيف وحقوق الإنسان ومجلسها لم يقدموا لنا إلى الآن شيئاً يذكر بل صار انتشار داء الظلم والطغيان والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان لنا كأمة النصيب الأكبر منها في العالم أجمع الذي تكالب على أمة العرب والمسلمين بل صار ينعتنا بالإرهاب لندور في حلقة مفرغة من الدفاع عن أنفسنا من شر لم تقترفه أيدينا.
يوم عرفة أمل يتجدد بنهضة هذه الأمة وبنائها بالأخلاق والدين والعلم والعمل وإحقاق الحقوق، وتوحيد الصفوف وتعزيز الانتماء والاعتزاز بالهوية العربية والإسلامية والبناء لا الفرقة والهدم هو العنوان العريض للمرحلة القادمة.
عندما يتوحد العرب والمسلمون في مصر والشام والخليج والحجاز واليمن والمغرب العربي وكل العالم كوحدتهم على جبل الرحمة في يوم عرفة يكون الطريق إلى بناء دولتنا المدنية المنيعة ممهداً. عندها سيسمع العالم صوتنا ويرى فعلنا ولن نكون القصعة التي تتكالب عليها الأمم.