انتهت مؤخراً الدورة الـ 33 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، والتي كانت كسابقاتها، تحفل بالأحداث والفعاليات واللقاءات المثمرة وغير المثمرة، إلا أن أبرز أحداثها كان فيما يتعلق بالحديث عن توتر العلاقة بين المفوضية السامية لحقوق الإنسان وبعثات دول مجلس التعاون الخليجي، وبالأخص البحرين والسعودية. الحديث انقسم كالعادة إلى قسمين، قسم انحاز لموقف المفوضية في اتهامها للبحرين بقمع الحريات والمعارضة السياسية مع التركيز على سحب ترخيص جمعية «الوفاق» والتضييق على المدافعين عن حقوق الإنسان، وأن البحرين تقود حملة إعلامية ظالمة تتهم فيها المفوضية بعدم الموضوعية والتسييس والكيل بمكيالين، وقسم آخر انحاز لموقف مملكة البحرين في مساعيها وعملها الدؤوب وتشجيعها على مواصلة مشاريعها وخططها الوطنية الرامية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان مع تحقيق التوازن مع سيادة القانون وتحقيق العدالة والأمن في إطارها المؤسسي، وهذا الحديث لم يدر في أروقة المجلس أو وسائل الإعلام المحلية والدولية أو في المحافل الحقوقية والدبلوماسية فقط، بل إني تفاجأت عندما كنت بالأردن الأسبوع قبل الماضي لمراقبة الانتخابات هناك، أن نفس هذا الحديث كان يدور هناك بين الخبراء والنشطاء والمهتمين بحقوق الإنسان، بالرغم من انشغالهم بالانتخابات، وأظن أن ذلك مرده تصريح الأردن الرسمي بأنها تقف مع شقيقتها البحرين في جميع إجراءاتها التي تحفظ أمنها وسيادتها واستقلال قضائها، لكي تنأى بنفسها عما عبر عنه المفوض السامي الأمير الأردني زيد بن رعد الحسين، بالإضافة إلى أن الكل يعرف مدى العلاقة الوطيدة التي تربط الأردن بالبحرين قيادة وحكومة وشعباً والتي لا تسمح بالاصطياد في الماء العكر.
وأنا هنا لست بصدد تفنيد هذين القسمين أو الحيزين من الحديث، وأخذ صف أحدهما كما فعل الكثيرون، ممن يطلق عليهم نشطاء أو مدافعون عن حقوق الإنسان، والذين يرفعون شعار فولتيير «قد أختلف معك في الرأي لكني على استعداد أن أدفع حياتي ثمناً لتقول رأيك بحرية»، ويقول لسان حالهم مقولة بوش البغيضة «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، ضاربين عرض الحائط بكونية حقوق الإنسان التي يتشدقون بها والتي تحرم عليهم المطالبة بحقوق فئة ونكران نفس الحقوق لفئة أخرى انحيازاً لمصلحة الطائفة أوالمذهب أو العرق أوالدين أو (.....)، أو (.....).
ولست بصدد التعرض لشخص المفوض السامي الأمير زيد بن رعد والذي منذ عرفناه لدى تعيينه في 1 سبتمبر 2014 كأول مفوض آسيوي مسلم عربي أصبحنا ومازلنا نفخر بوصوله لهذا المنصب، لاسيما بعدما عرفنا سيرته الذاتية التي تفرض على أي كان احترامه، ولا لفريقه من موظفي المفوضية السامية الذين يتمتعون بالكثير من المعرفة والخبرة والذين تربطنا بكثير منهم علاقة مهنية طوال سنوات لم يبخلوا فيها علينا بوقتهم واهتمامهم بقضايانا وسماعهم لآرائنا، ولكني بصدد عرض مشهد استخدمه كمادة لعصف ذهني لي ولكم علنا نصل معاً لإجابة تساؤلات كثيرة.
سأرجع معكم بذاكرتي إلى الدورة الـ 28 لمجلس حقوق الإنسان، والتي عقدت في مارس 2015، أي الدورة الثانية بعد تعيين المفوض السامي، والتي كان الجميع يترقب فيها معرفة مواقفه وآرائه وتأثير ذلك على قضايا حقوق الإنسان في العالم، ففي الدورة الـ 27 كان تعيينه حديثاً ولا يتوقع أحد أن يدلي بأي رأي أو تصريح، أما في هذه الدورة وبعد مرور 6 أشهر على تعيينه فلابد من تشكيل بعض الملامح لهذه الآراء والمواقف، وحينها سنحت لنا الفرصة التي كنا نترقبها حين تم الإعلان عن لقائه المباشر الأول بممثلي منظمات المجتمع المدني في العالم، ولمدة ساعة، في إحدى قاعات الفعاليات الجانبية بالمجلس لتبادل الآراء ونقاش أهم قضايا حقوق الإنسان في ذلك الوقت حول العالم، الآن سأصف لكم شكل الحضور في القاعة ومن ثم أحداث ذلك اللقاء لتعيشوا معي هذا المشهد بتفاصيله.
المفوض وفريقه على المنصة والقاعة ممتلئة بما يقرب المئة من ممثلين عن منظمات حقوق الإنسان ونشطاء وإعلاميين، وأستطيع القول إن أكثر من 70% منهم كانوا يشكلون «لوبي» واحداً منظماً، رغم تنوع جنسياتهم وبلد إقامتهم، حيث جاؤوا من البحرين والعراق ولبنان وبريطانيا وإيران، وكلهم اجتمعوا للحديث عن قضية رئيسة، وهي انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، وهذا غير مستغرب فقد اعتدنا عليه، إلا أني ذهلت مما جرى في الاجتماع، فقد بدأ المفوض الاجتماع بالحديث لمدة 10 دقائق خصص نصفها للحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، والنصف الآخر وزعه للحديث عن دول أخرى من العالم لم يكن من بينها أي دولة أخرى من الشرق الأوسط الملتهب بالفوضى والحروب وجرائمها وانتهاكات حقوق الإنسان الصارخة، بعدها فتح المجال للأسئلة فارتفعت معظم الأيادي في القاعة ومنها يدي، ولكم أن تتصوروا بعدها من كان له نصيب الأسد في الأسئلة والإجابات وما كان فحواها، ومع أني كنت أجلس وزميلي في منتصف القاعة أمام المفوض، إلا أننا كنا قد بدأنا نفقد الأمل في أن يقع الاختيار علينا مع قرب انتهاء الساعة، ولكن أخيراً وقع الاختيار علي فقلت للمفوض: «سيدي المفوض، أنا أرأس جمعية «معاً لحقوق الإنسان»، ومقرها البحرين، ولقد غمرتنا اليوم بحسك المرهف واهتمامك بقضايانا وإلمامك الواسع بها وهذا شرف كبير لنا، إلا أني أتألم ولا أستطيع أن أفهم إغفالك الكلام عن قضيتنا العربية الأولى، وقد زادت هذه الأيام الإعدامات الميدانية خارج القانون وهدم البيوت وحرقها بأهلها وانتشار المستوطنات في فلسطين المحتلة، وسوريا التي تنزف منذ أربع سنوات وقتل ما يقارب نصف مليون مدني من أبنائها، أكثر من نصفهم أطفال ونساء، وتشريد 12 مليوناً في الداخل والخارج، واليمن التي وضعت فيها ميليشيات الحوثيين وصالح أياديهم على صنعاء، وباقي مدنها منذ 6 شهور، وعاثوا فيها فساداً «الاجتماع كان قبل دخول قوات التحالف بأسابيع»، والعراق وليبيا ومصر وتونس التي تصرخ شعوبها من الإرهاب، وغيرهم كثير، فلم تغييب كل هذه القضايا من حديثك اليوم؟ وهل يعني هذا أنها أسقطت من أولويات اهتمامات المفوضية السامية لحقوق الإنسان؟».
فماذا كان الجواب؟ هذا ما سأطرحه عليكم قرائي في مقالي القادم.

* عضو مجلس المفوضين بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان - رئيسة جمعية «معاً» لحقوق الإنسان