محمد إسحاق


هل الطفل يولد عبقرياً منذ الصغر أم هو أمر يمكن اكتسابه وتنشئته عليها؟

ألّف عالم النفس لازلو بولغار من دولة المجر كتاباً بعنوان «كيف تربّي موهوباً؟» وقد كان من المؤيدين أن الموهبة تُكتسب ولا تولد مع الإنسان، وأن الأداء المتميز والعبقرية يمكن اكتسابها بالتدريب الموجه والتركيز.ولم يجد العالم المجري وسيلة لإثبات صحة نظريته إلا من خلال تطبيقها على أبنائه الثلاثة: سوزان، وصوفيا، وجوديت، بمساعدة زوجته المعلمة كلارا التي وقفت معه في هذه التجربة وشاركته نفس المعتقدات.

اختار لازلو بولغار مجال الشطرنج تحديداً لوجود نظام واضح لقياس للأداء ومعايير عالمية يمكن من خلالها معرفة اللاعب المتميز من غيره، بخلاف المجالات الفنية التي تدخل فيها الأذواق والآراء ويصعب الحكم على تفوق شخص ما من عدمه.

كان الأب مُحبّاً لرياضة الشطرنج وقام بجمع كثير من الكتب والمراجع حولها مع حصر لأسماء أبرز اللاعبين والمباريات في أرشيف منظّم بالبيت، وبدأ الأب مع البنت الكبيرة سوزان قبل بلوغها سن الخامسة، وبدأ معها لعب الشطرنج رويداً رويداً، لأنه كان يعتقد أن الإكراه لا يُنشئ موهوباً، وعلى الطفل أن يُحب المجال ويستمتع فيه.

عندما وصلت سوزان الخامسة كانت قد تلقت مئات الساعات من التدريب، مما أهّلها للدخول في دوري للشطرنج مع طلاب أكبر منها بسنوات، والفوز عليهم كلهم، مما أثار استغراب الناس حينها.

ثم بدأ مع البنت الوسطى صوفيا، ثم جوديت، وكانتا من قبل تشاهدان الأب وهو يدرب الأخت الكبرى وأحبا المجال، وأرادا الدخول فيه أيضاً في سن مبكرة، ومع التدريب المكثف والمستمر، وقبل وصول كل واحدة منها إلى سن العاشرة، كُنّ جميعاً قد تلقين أكثر من عشرة آلاف ساعة من التدريب المكثف.

وظهرت المحصلة لهذه الجهود بعدها بسنوات قليلة، فقد صارت سوزان بطلة العالم لفئة 16 سنة في الشطرنج، وحصلت على أعلى تقييم عالمي، وصوفيا فازت في بطولة العالم لفئة 14 سنة للشطرنج، ولقب خامس أفضل لاعبة على مستوى العالم.

أما جوديت، فقد تميزت عن أختيها، وقد كانت تبذل جُهداً أكبر في التعلّم والتدريب، وحصلت على لقب أصغر «غراند ماستر» في الشطرنج، ولقب اللاعب الأول على مستوى العالم، مع الفوز بكثير من البطولات والمباريات على مستوى العالم في الشطرنج.

التجربة في نظري تستحق الدراسة والتأمل، وقد لا يكون تعميمها بشكل مطلق صحيحاً دون دراسة مستفيضة لها، فقد تكون الطريق لتربية جيل من المميزين في مجال البرمجة والإلكترونيات والروبوتات والذكاء الاصطناعي، وكذلك في مجالات الشريعة وتلاوة القرآن وتجويده وغيرها من المجالات المساعدة على نهضة مجتمعاتنا.

وأبناؤنا بحاجة إلى من يحتويهم ويرشدهم في سن مبكرة، قبل أن ينشغلوا بالسيل الجارف من التفاهات التي تعرضها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فتضيع إمكاناتهم وتتبعثر جهودهم.

أختم بكلمة قالها العالم المجري لازلو في كتابه «كيف تربّي عبقرياً؟»: «يمكن لكل طفل سليم أن يُربّى ليكون شخصاً عبقرياً. وعندما بدأت هذا العمل مع زوجتي، قرأنا مجموعة كبيرة من الكتب والدراسات. لقد فحصنا طفولة العديد من الشخصيات البارزة، ولاحظنا أن كل من أصبحوا عباقرة تخصّصوا في وقت مبكّر جداً في مجال ما، ووثقنا أيضاً أنه كان بجانبهم دائماً أب وأم، أو معلّم أو مدرّب، وكانوا مهووسين بمعنى الكلمة. لذلك، بناء على بحثنا يمكننا أن نستنتج بحق أن العباقرة لا يولدون، وعلى المرء أن يُربّيهم، وإذا كان من المُمكن تربية شخص متميّز، فنحن بالتأكيد بحاجة إلى تجربة ذلك، وهكذا فعلنا وحققت محاولتنا النجاح».