العربية

خلال العقود الأربعة الماضية، امتزج اسم إيران بالعقوبات، إذ نقلت وتنقل وكالات الأنباء الدولية، أنباء حول الأنشطة النووية لطهران من رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى نصب أجهزة الطرد المركزي، مرورا بإنتاج الكعكة الصفراء وما شابه ذلك، بشكل متواصل.

وفي الأيام الأخيرة، ترددت الأنباء حول المفاوضات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، فإيران تريد إلغاء العقوبات عليها والأطراف الأخرى تحاول التأكد من سلمية البرنامج النووي الإيراني، وتبقى إلغاء العقوبات المشددة التي فرضتها الولايات المتحدة على شخصيات ومؤسسات إيرانية مع انسحابها من الاتفاق في 2018، السمة البارزة للمفاوضات.

يذكر أن العقوبات المفروضة على إيران لم تنحصر في النووي بل لها تاريخ طويل ومتنوع، بدأ مع تأميم النفط قبل عقود من انتصار الثورة، وبعيد الثورة فرضت أول عقوبات على النظام "الثوري" الجديد، ردا على احتلال السفارة الأميركية في طهران من قبل "الثوريين"، ولاحقا تنوعت العقوبات على إيران بسبب الأنشطة النووية واتهام النظام بانتهاك حقوق الإنسان، والإرهاب.

تأميم النفط وأول العقوبات

كما ذكرنا، فإن ظاهرة العقوبات لم تبدأ مع إقامة النظام الحالي بعد ثورة 1979 بل تعود إلى خمسينيات القرن المنصرم عندما فرضت بريطانيا عقوبات على إيران ورئيس وزرائها الدكتور محمد مصدق بعد أن قرر البرلمان الإيراني تأميم النفط في 15 مارس 1951، الأمر الذي رفضته بريطانيا، حفاظا على مصالح شركة الأنجلو-إيرانية (AIOC)، واستمرت العقوبات حتى إسقاط حكومة مصدق في 1953.

تجدر الإشارة إلى أن شركة (AIOC) هي التي اكتشفت واستخرجت النفط لأول مرة في إيران والشرق الأوسط في عام 1908 بميدان نفطون في مسجد سليمان، شرق الأهواز، وذلك خلال حكم الأمير العربي الشيخ خزعل بن جابر الكعبي، حاكم إمارة عربستان، الذي أسقطه رضا شاه بهلوي في 1925، وخلال هذه الفترة أيضا أسست بريطانيا أول مصفاة في الشرق الأوسط في مدينة عبادان جنوب الأهواز عام 1912.

العقوبات بعيد ثورة 1979

أما سلسلة العقوبات المتواصلة إلى يومنا هذا، فرضت لأول مرة بعد ثورة 1979، على خلفية احتلال السفارة الأميركية في طهران في 4 نوفمبر 1979، من قبل طلاب تابعين للمرشد المؤسس (الطلاب السائرون على نهج الإمام الخميني).

عند الساعة العاشرة صباحا قام حوالي 500 من هؤلاء الطلاب الموالين للنظام الجديد بمهاجمة السفارة الأميركية في طهران، وأخذوا 52 أميركياً من العاملين في السفارة كرهائن، وفتحوا باب العقوبات على إيران والتي تكثفت لاحقا مع تطور برنامج إيران النووي، وصارت تزداد منذ عام 2006 بعد إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، ولتبلغ ذروتها خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والمفاوضات المجمدة في فيينا منذ انتهاء جولتها السادسة في 20 يونيو 2021.

احتلال السفارة الأميركية أسس لتقليد "الاتفاق في أسوأ الظروف"

كانت من شروط النظام الإيراني الأولية لإنهاء أزمة الرهائن، إعادة محمد رضا شاه بهلوي آخر الشاهات الذي أسقطته الثورة إلى إيران لتتم محاكمته من قبل الثورة وتحويل أمواله إلى طهران.

وبعد أربعة أيام فقط من احتلال السفارة الأميركية، فرضت الولايات المتحدة أول عقوبات اقتصادية على طهران، وبهذا انطلق قطار العقوبات الإيرانية من محطته الأولى، وهو مستمر في السير باحثا عن محطة أخيرة له في فيينا.

ففي 7 أبريل 1980، أمر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، بالقطع الكامل للعلاقات مع إيران، والتي شملت جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية الثنائية، باستثناء صادرات الأغذية والأدوية، ووصف مؤسس "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" ومرشدها الأول "آية الله الخميني"، القرار الأميركي بـ"بداية النصر النهائي" الذي يتوجب "الاحتفال به".

ولاحقا في 17 أبريل 1980، أصدر جيمي كارتر أمرا تنفيذيا جديدا يحظر على جميع المواطنين الأميركيين التعامل مع الإيرانيين، وحتى تبادل الزيارات بين البلدين، ومنع جميع الواردات من إيران، كما تم حجز جميع الأسلحة العسكرية التي طلبتها إيران من الولايات المتحدة، حتى تلك التي دفعت حكومة الشاه ثمنها بالكامل.

وفي 12 نوفمبر 1980، فرضت الولايات المتحدة أيضا عقوبات على صادرات النفط الإيرانية، وبعد يومين أي في 14 نوفمبر من نفس العام، فرضت إدارة كارتر عقوبات على جميع ودائع الحكومة الإيرانية في البنوك الأميركية في الولايات المتحدة وأوروبا، كما سمحت إدارة كارتر للبنوك الأميركية بسحب مطالباتها من طهران من الحسابات الإيرانية المحظورة في أوروبا أيضا.

وفي 4 ديسمبر 1980، تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 457، الذي يدعو إيران إلى إطلاق سراح الرهائن الأميركيين.

وفي 15 ديسمبر 1980، أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي أن احتجاز موظفي السفارة الأميركية في إيران كرهائن يشكل انتهاكا للقانون الدولي، وطالبت بالإفراج عنهم فورا.

ومن ناحية أخرى، كان محمد رضا شاه بهلوي قد حل ضيفا على أنور السادات في مصر منذ 23 مارس 1980 بعد أن ضاقت به الأرض، وتوفي في 27 يوليو 1980 في القاهرة، وبوفاته أصبح شرط الخميني الرئيسي لإطلاق سراح الرهائن المتمثل في إعادته إلى إيران بغية محاكمته لا فائدة منه، وبهذا خرج الشاه من معادلة الأزمة بين طهران وواشنطن، وخسرت طهران ورقة الضغط الأهم في هذا المجال، ولكن بقيت العقوبات الأميركية ومصادرة الأصول الإيرانية على حالها.

وتزامنا مع أزمة الرهائن، وقع حادث جديد جعل طهران في موقف أضعف أمام واشنطن، وزاد من حاجتها إلى الإفراج عن أصولها المجمدة وإلغاء حظر الأسلحة عليها في الولايات المتحدة، لا سيما أن معظم الأسلحة الإيرانية كانت أميركية الصنع، خاصة سلاح الجو، إنها "الحرب العراقية الإيرانية" التي اندلعت في 22 سبتمبر 1980، واستطاع العراق السيطرة على مساحات شاسعة في المناطق الحدودية بين البلدين خلال فترة وجيزة.

وفي مثل هذه الظروف، قررت إيران أخيرا الخروج من أزمة الرهائن التي أضرتها كثيرا، لتتفرغ للحرب، وكان جيمي كارتر أيضا بحاجة لورقة تحرير الرهائن وهو يخوض السباق الرئاسي أمام ريغن، ولكن تم الاتفاق بين البلدين لإنهاء الأزمة في 19 يناير 1981 في العاصمة الجزائرية. وبعد يوم من اتفاق الجزائر، تم الإفراج عن الرهائن في 20 يناير 1981، أي بعد 444 يوما من احتجازهم، إلا أن العملية تمت في الوقت الضائع لكارتر لأنها تزامنت مع الوقت الذي أدى فيه ريغان اليمين كرئيس للولايات المتحدة.

خسائر طهران كانت أكبر من خسارة كارتر للكرسي الرئاسي، ففي بداية الأزمة، طالب المسؤولون الإيرانيون مبلغ 24 مليار دولار من الولايات المتحدة، إلا أن المبلغ الذي تلقوه على الورق من واشنطن مقابل الإفراج عن الرهائن كان نحو 8 مليارات دولار، أنفقت 5 مليارات دولار منها على مطالبات البنوك الأميركية من إيران، وفي النهاية، لم يتبق لإيران أكثر من 3 مليارات دولار، وبهذا كان المستفيد الأول رونالد ريغان، الذي اتخذ مواقف أكثر تشددا من كارتر ضد طهران.

إن أسلوب طهران في التعاطي مع مثل هذه الأزمات لا يقتصر على احتلال السفارة الأميركية، التي حوّلها الشخص الأول في النظام، أي المرشد الأعلى وبإصرار، إلى خط أحمر غير قابل للانتقاد، لكن بعد ذلك ومع فشل هذا الأسلوب في تحقيق الأهداف، تراجع النظام عن مواقفه في أسوأ الظروف، واضطر إلى القبول بصفقات غير مربحة والتخلي عن جميع خطوطه الحمراء ذات التكاليف المدمرة للبلد.

إلا أن النظام وبكل تراجع كان يروج له كانتصار من خلال ماكيناته الإعلامية، لكن بعد ذلك يتم إلقاء اللوم على هذا وذاك، دون صاحب القرار الرئيسي وهو مرشد النظام، وهذا الأسلوب تكرر لدى قبول المرشد قرار وقف إطلاق النار مع العراق رغم رفضه المتكرر للقرار خلال 8 أعوام من الحرب، وذلك بعد أن تقدم العراق مرة أخرى في عمق الأراضي الإيرانية. والنموذج الآخر، هو القبول بالتفاوض حول الملف النووي تحت ضغط العقوبات الدولية والتوقيع على الاتفاق النووي في 2015، وخسارة مليارات الدولارات على الأنشطة النووية.