لم تعد الحروب تجري دائماً في المناطق الصحراوية أو الجبلية أو المساحات الشاسعة الخالية من المباني كما كان يحدث في العقود الماضية بل إن هندسة الحروب والسيناريو المرسوم لها بات يركز على الهجوم من خلال المباني الضخمة والمرتفعة والمدن الكبيرة المتعددة الطرق والممرات، لذا لابد من تطوير نماذج المحاكاة لمواجهة الصراعات العسكرية، باختصار لم تعد هناك حرب في الصحراء بل لدينا اليوم ما يسمى بحرب المدن.

هذه الفكرة العامة الأهم -بالنسبة لنا- التي تداولها المتحدثون في جلسة تطوير نماذج المحاكاة للحروب المستقبلية والتي تضمنها مؤتمر التكنولوجيا العسكرية في الشرق الأوسط الذي نظمه مركز دراسات مشكوراً ضمن مؤتمر ومعرض البحرين الدولي للدفاع 2019.

تلك الفكرة تعكس أننا بحاجة دائمة إلى تحديث وتطوير أنظمتنا الدفاعية والعسكرية مع التطور العمراني الذي تشهده دولنا وقيام المدن الكبيرة والضخمة والتي تحوي هندسة مبانٍ عالية الارتفاع وشاهقة وجسوراً ومباني ومناطق إسكانية مأهولة بالبشر، مع مراعاة أن تكون هذه الأنظمة الدفاعية والعسكرية تتماشى مع التطور التكنولوجي والتقني أيضاً وترصد كافة التقنيات الحديثة التي من الممكن أن تستخدم في مجال حرب المدن، فالصراعات القادمة مع الخلايا الإرهابية لن تكون كما هي عليه اليوم، بل بالطبع هناك صراعات مستقبلية قادمة لنا -بعيد الشر- أكثر تعقيداً وخطورة أمام مجابهة حروب من نوع حروب داخل المدن الضخمة وتستخدم خلالها تقنيات قد تؤدي إلى إيجاد كوارث بشرية مدمرة، فلو تم تفجير مبنى شاهق الارتفاع مثلاً في مدينة حيوية فحجم الأضرار لن يكون بالطبع مقتصراً على المبنى وما يحيطه، بل قد تمتد الأضرار إلى المباني المجاورة له، خاصة في حال نسفه بقنابل قوتها التفجيرية لها مدى يصل إلى 20 كيلومتراً وأكثر من مليون طن، ومن هنا تكمن الحاجة إلى تطوير أنظمتنا وإحداث تغييرات حتى في العقيدة الدفاعية والأمنية لتتلاءم مع التغيير الحاصل عندنا وحولنا، فيما من الممكن أن نطلق عليه إرهاب المستقبل القادم لنا، ونستحضر هنا التدريب العسكري الذي تم قبل عدة سنوات في مجمع السيف المنامة بعنوان حرس المملكة 1.

وكلامنا هنا يؤكد ما أشار إليه الدكتور روبن ليرد -كاتب ومحرر في موقع خط الدفاع الثاني وباحث في منظمة ويليامز بالولايات المتحدة الأمريكية- بأهمية زيادة التوعية بكيفية إدارة الأزمات بصورة عملية ومحاكاة مستقبلية دقيقة وسليمة، وحينما ذكر أن نماذج المحاكاة بمقدورها أن تمكن القوى العسكرية من الحصول على قدرات قتالية أكثر تنوعاً وذكاءً. ومن هنا نقول؛ تطوير القدرات القتالية لدى القوات الأمنية والعسكرية بات مرتبطاً بمدى إلمامها بالتقنيات والتحديات التكنولوجية التي من الممكن مواجهتها والانتباه لها في الميدان وكيفية التعامل معها وتخمينها خلال القيام بالعمليات الأمنية والمداهمات، فالعالم اليوم كله يتجه نحو كيفية إدارة الأزمات خلال حرب المدن وفي المواقع الحيوية التي من الممكن أن تتعرض لمخاطر إرهابية وتستغل الخلايا الإرهابية هندستها ونماذج مخططاتها لتنفيذ عملياتها الإجرامية.

هناك تطور عمراني كبير تمر به منطقة الشرق الأوسط التي يغلب عليها الطابع الصحراوي والجبلي وتغييرات كبيرة تحدث على مستوى حتى الأمن البحري والجوي، وكما قال فرانك بيلوناس الرئيس التنفيذي لشركة فالكون ديزرت الدولية في الكويت، إن منطقة الشرق الأوسط تمر بنمو وتنوع متسارع نحو التمدن مع بناء مدن ضخمة ورؤى تنموية طموحة، على غرار رؤية السعودية 2030 ومدينة نيوم المستقبلية في السعودية التي يفوق حجمها مدينة نيويورك، إضافة إلى توقعات بنمو مدينة جدة «المدينة المطلة على البحر الأحمر» بنسبة 140%، وكل ذلك يحتاج إلى أنظمة متطورة تحاكي التمدد الحضري بصورة ذكية ورقمية، ونضيف هنا، الأنظمة لا يجب أن تحاكي التمدد الحضري داخل المدن وإنما أيضاً تراعي التحديات البحرية أمام التمدد الحضري المطل على البحر، ففي مملكة البحرين التي تعتبر مجموعة جزر بحرية بالطبع، نحتاج لأنظمة محاكاة تراعي البعدين الأمن البحري والبري معاً وبنفس الوقت.

ومن اللافت ما أشار إليه بيلوناس، حينما أكد أن منطقة الشرق الأوسط تسجل تقدماً ملحوظاً في تبني الذكاء الاصطناعي والإعداد لأنظمة المحاكاة والاستثمار فيها، وأن منطقة الشرق الأوسط تملك خصوصية في التحديات التي تواجهها، وبالتالي في كيفية ابتكار نماذج المحاكاة ووضع عدة سيناريوهات لمواجهة الصراعات المستقبلية المحتملة مع وجود التهديدات الخارجية التي تكمن في القوات والهجمات التقليدية والجماعات الإرهابية التي تعتمد على الأفراد في شن عملياتها الإرهابية، والهجمات السيبرانية تزداد مع تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لتعبئة أناس تنشد الفوضى وتربك الاستقرار والأمن وإدارة مراكز تهديد خارجية. وكلامه يعكس ما مررنا به بالأصل خلال أحداث فوضى الربيع العربي المدمر، فالخطر الأكبر أن الجماعات الإرهابية الخارجية تسخر أفراداً ينفذون عملياتها الإرهابية داخل الدول، ولنتصور، كما أكد معظم المشاركين، أن هذه الجماعات تقوم بتزويد هؤلاء الأفراد بأحدث الأنظمة التكنولوجية للهجوم الإرهابي وبشكل يتفوق على أنظمتنا الدفاعية والعسكرية، لذا خرج البيان الختامي لمؤتمر التكنولوجيا العسكرية في الشرق الأوسط مشدداً على أهمية أن يقوم المجتمع الدولي على إيجاد منظومة قانونية دولية للتصدي لمخاطر وقوع التكنولوجيا في أيدي الجماعات الإرهابية أو الدول المارقة التي تمولها، تتوازى معها جهود فاعلة للمؤسسات التشريعية الوطنية من أجل إقرار التشريعات الرادعة للأفراد أو الجماعات التي تسعى للحصول على تلك التكنولوجيا واستخدامها على نحو يهدد الأمن الوطني للدول. وبالطبع، هنا تكمن الحاجة إلى القيام بخطوات سريعة وعاجلة تسبق الدول الداعمة للإرهاب ومخططاتها القادمة لنا في المنطقة بالتحرك على مستوى دولي لأجل إيجاد تشريعات دولية تفرض العقوبات على هذه الدول في حال تورطها بمد التكنولوجيا المتطورة لأيدي الجماعات الإرهابية لضرب الأمن والسلم الدولي.

ومن النقاط الهامة التي خرج بها البيان الختامي أيضاً، تأسيس مراكز وطنية متخصصة للتعامل مع مخاطر الإرهاب السيبراني ضمن استراتيجيات الأمن القومي، وهو أمر يرجعنا إلى نقطة البداية بضرورة تحديث عقيدتنا الدفاعية، كما لوحظ اتفاق الجميع على حتمية الاهتمام بالإجراءات الاستباقية، ليس من خلال الخطط والإجراءات الاحترازية فحسب، بل من خلال تدريب أفراد القوات المسلحة على نماذج المحاكاة لأزمات محتملة، وهو توجه أضحى يمثل أولوية للعديد من جيوش دول العالم. ومن هنا نرى أهمية التركيز على تكثيف المناورات العسكرية النوعية بين جيوش دول الخليج العربي والعديد من جيوش دول العالم للارتقاء بمنظوماتنا الدفاعية، ليس على مستوى الدول فحسب، إنما أيضاً على مستوى قواتنا في درع الجزيرة والتحالف العربي للتمكن من تحديد ركائز صياغة عقيدتنا الدفاعية المستقبلية التي تتماشى مع التغييرات العسكرية والأمنية الحاصلة، وهذا الكلام يأتي أمام ما كشفه الأدميرال متقاعد سايمون ويليامز رئيس مجلس إدارة كلاريون للفعاليات، أن العالم سينفق خلال العقد المقبل 12 مليار دولار سنوياً على صناعة نماذج المحاكاة والتي تضاهي ميزانية العديد من وزارات الدفاع على مستوى المنطقة والعالم، وهو رقم فلكي بالطبع، ويبرز الحاجة إلى أهمية تكثيف التعاون وعقد المزيد من التحالفات العسكرية.

* إحساس عابر:

لفت نظرنا خلال معرض «بايدك 2019» منصة جائزة سمو الشيخ ناصر بن حمد للابتكار العسكري والتي أطلقت نسختها الأولى في فبراير الماضي 2019، وكان آخر موعد لتسلم المشاركات أكتوبر الماضي، وسيتم الإعلان عن الفائزين في ديسمبر 2019، وهي مسابقة نوعية تعد الأعلى على مستوى مملكة البحرين وتتماشى مع رؤية البحرين 2030، وتقوم فكرتها على دعم الأبحاث والابتكارات العسكرية والدفاعية لتؤسس لعهد جديد من ثقافة الابتكار العسكري والدفاعي، وترسخ وتنمي التوجه العالمي الحاصل الذي يتجه نحو الذكاء الصناعي، وهي مختصة بالعاملين في قوة دفاع البحرين من عسكريين ومدنيين ومتقاعدين. هذه المسابقة تعكس جهود مملكة البحرين في دعم ثقافة الابتكار والإبداع العسكري ونشرها، ونتمنى أن تكون المسابقة في المستقبل القريب على مستوى جميع المؤسسات الأمنية والعسكرية في مملكة البحرين وحتى على مستوى الخليج العربي والوطن العربي، لإبراز جهود مملكة البحرين في استقطاب العقليات الإبداعية وتشجيعها، ولتأكيد أن البحرين مركز لانطلاق الاختراعات والابتكارات العسكرية الخليجية والعربية.