خلال سنوات عملي في مجال حقوق الإنسان دخلت في حوارات لا أستطيع عدها مع الكثير الكثير من النخب والأعلام في هذا العالم، والعلم الذي صار من العلوم الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عن التبحر فيها والعمل بها، ومع الكثير الكثير من البسطاء والعامة في مواضيع تتعلق بحقوق الإنسان، وتعلمت من كل منهم الكثير ولازلت أتعلم، وحين أقول دخول حوارات أقصد بها الصحية منها وليس ساحات الجدل التي لا طائل منها، فمتى ما شممت رائحة الجدل العقيم توقفت امتثالاً لأمر حبيبنا الرسول صلى الله عليه وسلم «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً».
وأنوي هنا في هذه الزاوية الصغيرة إسقاط بعض الإضاءات على بعض الخلاصات في قضايا تهمنا جميعاً من زاوية حقوقية علنا نستطيع معاً أن نصل لبعض المعرفة التي نحتاجها لتشخيص مشاكلنا بموضوعية، وهل هي مرض عضال سيودي بنا كما يصفها أصحاب النظرة السوداوية أم بعض الممارسات غير الصحية التي يمكن علاجها بسهولة كما يصفها المتفاءلون جداً على الطرف الآخر؟ وأين هو واقعنا الفعلي بين هذا الطرف وذاك وما هو دورنا؟
على سبيل المثال، تسمع الكثيرين يتكلمون عن المشروع الإصلاحي وشعاراته القوية وعلاقته بحقوق الإنسان وعندما تدخل معهم في حوار جاد حوله تجدهم لا يفقهون أبسط أبجدياته، ناهيك عن ممارساتهم التي لا تقرب إلى جوهره لا من قريب أو بعيد فيصبحوا بذلك أسوأ دعاية له.
مشكلة أخرى يتحتم مناقشتها هي جدلية الفرق بين «العمل السياسي والحقوقي»، وما أهداف كل منهما، وما أوجه الشبه والاختلاف بينهما، وما حاجتنا نحن بكل منهما، ومن يجدر به الانشغال والاشتغال بهما، خصوصاً مع اقتراب الدورة الـ 33 لمجلس حقوق الإنسان بعد أسبوعين من الآن، هذا بالإضافة إلى اقتراب موعد المراجعة الدورية الشاملة لملف البحرين الحقوقي في الدورة التي ستليها وما يتوقع أن يصاحبهما كالعادة من إثارة إعلامية يخلط بها الحابل بالنابل وبعض الوقائع بالكثير من اللغط من أطراف كثيرة معنية وغير معنية، متخصصة وغير متخصصة.
ماذا عن مفارقة عالمية قيم ومفاهيم حقوق الإنسان في مقابل خصوصية مجتمعاتنا الحضارية والأخلاقية والثقافية؟ وهل فعلاً هناك ازدواجية في معايير حقوق الإنسان أم في ممارسة المنظمات الأممية والحقوقية لها؟ وهل يجوز نعت البعض لها بدكاكين حقوق الإنسان والتشكيك بكل ما يصدر عنها وأحياناً ممارسة ذات ما يتهمون به بانتقاء ما يناسب القطب الذي ينزوي تحته المنتقي من تقاريرهم وتصريحاتهم في ظل الاستقطاب الحاد الذي صارت تعاني منه مجتمعاتنا أو مجموعات منها إن صح التعبير؟
هل يمكن تحقيق التوازن في دولتنا المدنية بين حقوق الإنسان الفرد وحقوق الجماعة والدولة والديمقراطية وحكم القانون وتحقيق العدالة والأمن والتنمية والحكم الرشيد؟
ما ضرورة تجسير الفجوة بين المثال والواقع على صعيد مفاهيم وقوانين حقوق الإنسان في فضائنا الخليجي والعربي؟ وهل صيانة وحفظ حقوق الإنسان هو أحد السبل الأساسية لتعميق خيار الاستقرار والسلم الاجتماعي، أم هو السوط الذي تجلد به دولنا لإنهاكها والضغط عليها ومعول الهدم الذي سيستخدم لهدم دولنا التي يصفها بعض المفكرين العرب والغربيين بأنها دول كرتونية وهشة لكونها دول ريعية تعتمد على النفط الذي سينضب في أقل من خمسين عاماً وبدء العد التنازلي لزوالها وتقسيمها واقتسامها لكونها تمر بزوابع أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية تسهل النيل منها من قبل كل طامع ومتربص؟
وأخيراً، هل العزوف عن الاهتمام بمعرفة وتعزيز الحماية والدفاع عن حقوق الإنسان سيعفينا من المسؤولية التي تقع على عاتقنا جميعاً شئنا أم أبينا ونحن نعلم أنها تتعلق بوجودنا واستقلالنا وعيشنا بكرامة في الدولة المدنية التي ننشدها ونحن من يردد قوله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وقوله عليه الصلاة والسلام «من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم».
نؤمن بأننا معاً نستطيع أن نفهم حقيقة واقعنا، فلا أحد يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة كاملة الا الله وحده، ولذلك نسعى الى ان نطوره ونرتقي به، ونؤمن بأننا معاً نستطيع أن نبني منظومة الدولة المنيعة التي تبني الإنسان وتحفظ كرامته وحقوقه، من منطلق «ولقد كرمنا بني آدم» ومن ثم تحفظ الدولة وسيادتها.
وللحديث بقية...
* عضو مجلس المفوضين بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان - رئيسة جمعية «معاً» لحقوق الإنسان