من سبات عميق استمر مائة عام استيقظت اتفاقية سايكس - بيكو النائمة في شرايين الحدود العربية، لتجد من يتهمها بأمومة خرائط غير الشرعية، نطفة الخرائط التقسيمية الجديدة أطلقتها كونداليزا رايس من تل أبيب في صيف 2006م وسمتها (الشرق الأوسط الكبير) لإعادة ترتيب المنطقة وفق لمبدأ الفوضى الخلاقة.
وقد التقطت مراكز دراسات استراتيجية غربية المتداول عن الترتيبات الجديدة، والتي كان عمادها سطوة القوة الأميركية خارج القانون الدولي واستراتيجية التدخل حينا والاقتراب غير المباشر عبر الانقلابات والنزاعات الطائفية والعرقية في أحيان أخرى، وراحت هذه المراكز لمصلحة رجال حكم، بعضهم جاهل وبعضهم فاسد وبعضهم موتور، في رسم خرائط تقسيمية منمقة لعالمنا العربي، تفتقد تلك الخرائط للحد الأدنى من الإدراك الاستراتيجي.
كان من نتائج هذا الفهم القاصر ظهور خريطة المقدم في الجيش الأميركي في ألمانيا رالف بيترز «Ralph Peters» المختص بالاتحاد السوفيتي، الذي أمضى وقته في وضع كتب حول البطل الأميركي المقاتل للشيوعية عبر روايتين هما «Bravo Romeo» وروايـــة «The War After Armageddon»، وبعـــد كساد سوق رواياته بزوال الشيوعية تحول إلينا بمقال له بعنوان «حدود الدم»، فقسم الخليج والجزيرة العربية، حيث ضم الكويت والبحرين لدولة شيعية تبدأ من حدود قطر مستديرة على شمال الخليج شاملة العراق ومخرجة إيران من الأحواز ومن الإطلالة على الخليج حتى تصل إلى بوشهر، كما قسمت السعودية لأقسام حرمتها بها من الانتماء للخليج، وانتزعت منها الحجاز، إلا أنه ترك قطر والإمارات وعمان كما هي.
ولا نعلم كيف توقع بيترز إمكانية تنفيذ خريطة تحرم إيران والسعودية، وهما أكبر دولتين على الخليج، من حقولهما النفطية ومنافذهما البحرية على الخليج دون قتال، لكننا نجزم أن ما أعطاها الانتشار لا الواقعية هو نشرها بمجلة القوات المسلحة الأمريكية 2006.
على نفس النسق نشرت مجلة تايم «TIME» خريطة للعراق محترق ومقسم، وفي إطار قراءتنا للمشهد الإقليمي حين رسمت الخريطة نرى أن المجلة كانت وفية لتوجهاتها الصهيونية في ترويج فكرة إعادة تنظيم المنطقـــة وإقامة دول صغيرة على أســـاس طائفي وعرقي لتخفي شذوذ وجود إسرائيل بين كيانات عربية القومية إسلامية الدين، أما ما حير اتفاقية سايكس - بيكو العجوزة فهو نسب خريطة «داعش» الملطخة بالسواد لفكرها التقسيمي، ففي خريطة دولة العراق والشام الحديثة تمت إضافة دولة الكويت في وفاء للفكر البعثي المنتشر بين رجال التنظيم، رغم أن الكويت كان أمرها محسوماً كإمارة مستقلة تحت الحماية البريطانية وخارج اتفاقية اتفاقية سايكس - بيكو الأصلية قبل مائة عام. ويبدو أن تعكر مزاج حقل برقان النفطي وتضامن «الأخوات السبع» معه قد دفع «داعش» لتصحيح الخطأ ورسم خريطة سوداء أخرى باسم دولة الخلافة الإسلامية مستعينين بخريطة عبدالرحمن الداخل في الأندلس غرباً وخريطة الأحنف بن قيس وهو يطارد يزدجرد فاتحاً خراسان شرقاً.
ولأهمية الدور التخريبي الذي تلعبه خرائط التقسيم في ترويض العقول، سوف يستمر توزيع الخرائط التقسيمية في الحفلات الطائفية والمذهبية والتوسعية التي تقام بيننا، كما أن الحسابات والرهانات الجيوستراتيجية الدولية ستظهر أنواعاً عدة من الخرائط بين الضم والتقسيم. فعلى الخرائط قامت المدن ورسمت طرق التجارة، كما أديرت المعارك، وأعيدت كتابة التاريخ.. فهل نرى واقعاً جديداً على الأرض تعاد من خلاله إعادة كتابة تاريخنا؟
بوسع المراقب الخليجي أن يزعم بقدر معقول من اليقين بعدم ظهور خطوط جديدة على خرائط الخليج العربي، فقد كانت واشنطن تخشى شكل الخريطة الجديدة للاتحاد السوفييتي قبل تفككه أكثر من خشيتها من أسطول البحر الأسود، كما أن إعادة تشكيل الحدود قد يكون خطراً وعملاً عبثياً يفضي لعدم الاستقرار جراء متوالية الكاسب والخاسر. بالإضافة إلى أن موازين القوى الإقليمية التي تشكلت جراء الربيع العربي ماتزال مائعة.
وبوسعنا القول إن دول الخليج ستكون من الناجين من تبعات الربيع العربي التقسيمية المستقبلية؛ فقد أثمرت الجهود التي بذلتها لتوسيع نفوذها على مدى العقدين الماضيين لخلق حدود توازنات تبعدها عن خرائط الضم والتقسيم، مما يجعل خريطة الوحدة الخليجية هي الأكثر قبولاً بين الخليجيين بدل خرائط «بيترز» و«تايم» و«داعش»