لم يكن جورج طرابيشي مترجماً عادياً، كان ينتقي أهم إنتاجات الفكر الغربي في الفلسفة وعلم النفس والإيديولوجيات ثم يترجمها ليعوض فقر الفكر العربي المعاصر في هذه المجالات. فأثرى المكتبة العربية بأهم الترجمات لسيجموند فرويد وسارتر وهربرت ماركوز. ولم يكن طرابيشي مفكراً عادياً أيضاً، كان ناقداً للتراث العربي الديني والفلسفي، وناقداً لمفكري عصره، وخصوصاً محمد عابد الجابري. جورج طرابيشي كان مفكراً لا يقدس المسلمات الفكرية، وناقداً لا يسير خلف آثار الأقدام. فكثيراً ما اكتشف أن الأثر مضلل وأن خلفه يوجد التيه. وهذا ما كشف عنه من سيرته في النص الجليل الذي كتبه قبل وفاته.

بيان الوداع لجورج طرابيشي طويل، ويقرأ من أكثر من زاوية، وهو يعكس موقفه تجاه أكثر من قضية. وسأتوقف عند موقفه من ثلاث قضايا فقط، الأولى موقفه من الدين، فجورج طرابيشي مسيحي المولد والنشأة كان متعصباً لمسيحيته مخلصاً لها، لكنه، في بيانه، دخل في صراع نفسي مع تعاليم المسيحية بعد أن رسم أحد «الكهنة» في المدرسة صورة مخيفة عن الله وغضبه ومحاسبته للناس على نواياهم وإن صلح عملهم. تلك الصورة المفزعة التي حاصرت طرابيشي في مراهقته وكادت توصله للجنون بعد أن طرحته على فراش المرض كانت المبرر لتخليه عن المسيحية نهائياً.

لكن حصار الدين لم يفارقه، فبعد الصفقة السياسية التي أبرمها حزب البعث مع تنظيم الإخوان، إثر انقلابهم على الرئيس السوري السابق أديب الشيشكلي، طلب الإخوان إدخال التعليم الديني للمدارس الثانوية، حيث كان التعليم الديني يتوقف في المدارس الثانوية. وتمكينهم من الإشراف عليه، فجلس طرابيشي أمام معلم دين معمم يدرس التلاميذ أن النصارى كفار وهم أعداء الإسلام ويتعين محاربتهم وأخذ الجزية منهم. وهنا أدرك طرابيشي أن العلة في عقول من يعلمون الناس الدين ومن يسيطرون على الدين في الدنيا.

الموقف الثاني في البيان هو موقف طرابيشي من الحزب، والطريف أن موقفه ارتبط بالدرجة الأولى بالموقف من المرأة، فقد انضم جورج طرابيشي إلى حزب البعث الاشتراكي وسجن مع رفاق مسيحيين من الحزب نفسه. ودار حوار بينهم حول جرائم الشرف أجمع فيه الرفاق على أنهم لن يتوانوا عن ذبح بناتهم إن تورطت إحداهن بقضية تمس الشرف. وحين رفض طرابيشي مبدأ الذبح واحتدم الجدال بينه وبين الرفاق نعتوه بأنه ليس بعثياً ولا يستحق أن يكون بعثياً عربياً. واحتقروه وقاطعوه جميعاً حتى اضطر إلى طلب تحويله إلى زنزانة انفرادية. وهنا تعمقت قناعة طرابيشي بأن القضية ليست قضية مسلمين أو مسيحيين وليست قضية وعي سياسي وطبقي أو أيديولوجي. القضية هي أزمة في العقليات التي تدعي التقدمية والتحرر وهو يختزن في طبقات وعيها السفلى أسوأ مبادئ الرجعية.

الموقف الأخير الذي سلط عليه بيان طرابيشي الضوء هو الموقف من المثقف. وخص فيه المفكر الراحل محمد عابد الجابري الذي لم يخفِ طرابيشي إعجابه به وامتنانه له. ولكنه بين كيف بدأ يتتبع نقله غير الدقيق عن بعض كتب التراث ابتداء من كتاب «إخوان الصفا» الذي قاده لمراجعة كاملة لكل ما كتب الجابري. اختلاف طرابيشي مع الجابري كان اختلافاً نقدياً. طرابيشي لم يستمر في نقله عن الجابري والتتلمذ على كتبه وتقديسه. لكنه في الوقت نفسه بقي يحترم جهده واجتهاده ولم يسيء له أو يشنع به كجري بعض الكتاب.

المواقف السابقة وغيرها كانت منطلقات لإبداعات جورج طرابيشي وثراء طرحه. لكن الأحداث الأخيرة التي مرت بها سوريا والعالم العربي أصابت طرابيشي، كما وصف هو، بالحبسة التي أقعدته عن الكلام أو الكتابة. الصراعات السابقة والاختلافات الماضية كان لها دور تحريك الوعي وتحدي ما هو سائد وتعميق البحث في مواقع الاختلاف. أما ما يحدث اليوم في عالمنا العربي، وبعد كل التراكمات من التجارب والخبرات والأحداث والتاريخ فإنه فعلاً يصيب كل ذي عقل بالشلل والعجز ويموت فيها القلب قبل أن يذبل الجسد.

رحم الله جورج طرابيشي ولروحه السلام والسكينة فقد كان خلاقاً وملهماً حياً وميتاً.