لندن – شادية حامد

"تيريزا ماي على خطى مارغريت تاتشر".. ليس في أن تصبح المرأة الحديدىة التي كسرت شوكة النقابات العمالية عام 1984-1985، لا بل على العكس، فهي ربما تختفي من المسرح السياسي البريطاني عبر تقديم استقالتها كما سبقتها تاتشر قبل 27 عاماً، نتيجة الخلافات التي تعصف بحكومتها والتحديات التي تواجهها مع يفتح الباب أمام حزب العمال المنافس إلى العودة للسلطة مرة أخرى عبر البوابة الأوروبية.

وتعيش رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تكرار كابوس السناريو السابق من نفس الحزب "المحافظين"، ومن أقرب حلفائها والذين دفعت بهم إلى صفوف القيادة وذلك بعد أن تحول مؤتمر الحزب الأخير إلى ما يشبه كابوساً بالنسبة لرئيسة الوزراء ماي بداية الشهر قبل الماضي، فقد جاءت لتطلب من زملائها التوحد خلفها من أجل السير ببريطانيا نحو التغيير، لكن مساعيها لتجاوز الانقسام الذي أحدثه الانفصال عن أوروبا "بريكست"، ووجهت ماي بعاصفة من الاحتجاج وإنذار ونذير من 40 نائباً بصدد جمع توقيعات لسحب الثقة بالإضافة إلى جرائم سبقت ذلك، ومنها فضيحة التحرش الجنسي التي لاحقت وزراء ونواباً بريطانيين وبينهم وزير الدفاع مايكل فالون، وذلك بعدما علمت رئيسة مجلس العموم أندريا ليدز أن مايكل فالون ينوي التقدم بطلب لفصلها من أجل إنقاذ اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، فسارعت بالشكوى أمام رئيسة الوزراء عن تحرشه جنسياً بها كما جاء في تقرير صحيفة "ديلي تليغراف".



بالإضافة إلى كل ما سبق، تأتي المشاكل الاقتصادية لتعصف بالمملكة حيث سجل سعر الإسترليني أدنى مستوى منذ أكثر منذ 30 عاماً حيث بلغ 1.3229 للدولار.

ويبدو أن رياح بريطانيا لم تأت بما تشتهيه سفن رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي تمنت أن يحالفها الحظ لتسير على خطى نظيرتها مارغريت تاتشر أول امرأة تشغل منصب رئيس وزراء في بريطانيا وأول سيدة في العالم تلقب بالمرأة الحديدة لقوة شخصيتها وقدرتها الخارقة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وقد بدا ذلك جلياً عندما أعلنت الحرب على الأرجنتين واستعادتها لجزر فوكلاند عام 1982.

جدير بالذكر أن ماي خدمتها الصدفة البحتة لتحتل المنصب الرفيع بعد الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون إثر الفوز الساحق للداعين إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي والمناصرين لـ "بريكست".

وقالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إن بلادها والاتحاد الأوروبي يجب أن يحققا "معاً تقدماً" في مفاوضات بريكست، في وقت يأمل قادة التكتل بالتوصل إلى تسوية مالية تتيح حلحلة المفاوضات.

وستلتقي ماي رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك على هامش قمة بين التكتل ودول كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق في بروكسل في محاولة لإفساح المجال أمام بدء المفاوضات المتعلقة باتفاق تجاري مستقبلي.

وكان توسك أعلن في السويد الأسبوع الماضي مهلة حتى بداية ديسمبر لتحقيق "تقدم إضافي كبير" من أجل إفساح المجال أمام بدء المفاوضات التجارية خلال قمة للاتحاد الأوروبي في 14 و15 ديسمبر.

وقالت رئيسة الوزراء للصحافيين إن "هذه المفاوضات مستمرة لكنني واضحة في ما يتعلق بمسألة أنه علينا اتخاذ خطوات إلى الأمام معا، وذلك من أجل تمكين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من الانتقال إلى المرحلة المقبلة".

وأضافت ماي عندما وصلت إلى بروكسل، أمام وسائل الإعلام التي بدت بوضوح أنها تبدي اهتماماً أكثر لمسألة بريكست من القمة بحد ذاتها، أن "المفاوضات مستمرة لكنني أريد أن أكون واضحة حول حقيقة أنه علينا أن نمضي قدماً معاً".

وتابعت "يعود إلى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الانتقال إلى المرحلة التالية من المفاوضات".

وستجتمع ماي كذلك مع نظرائها من ليتوانيا وبلجيكا والدنمارك في بروكسل.

ولدى وصولها إلى بروكسل، رفضت ماي نفي أنها على استعداد لرفع المبلغ الذي ستدفعه لندن إلا أنها أصرت أنه على أي تحرك من هذا النوع أن يرتبط باتفاق نهائي بشأن العلاقات المستقبلية يتم التوصل إليه العام 2018.

وازداد أمل المسؤولين في الاتحاد الأوروبي بأنها ستقدم اقتراحاً جديداً بشأن مسألة كلفة انسحاب بريطانيا الشائكة بعدما اتفق وزراء بريطانيون رفيعون في وقت سابق هذا الأسبوع على عرض مبلغ أكبر قُدر بـ40 مليار يورو.

كما يصر الاتحاد الأوروبي على ضرورة التوصل إلى اتفاق حول شروط الانسحاب المتمثلة بفاتورة الخروج ومسألة أيرلندا الشمالية وحقوق مواطني الاتحاد الأوروبي قبل مناقشة العلاقات المستقبلية.

وأشارت تقارير إلى أن لندن ستضاعف عرضها لتسوية التزاماتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي من 20 إلى 40 مليار يورو. إلا أن بروكسل أصرت حتى الآن على أن الرقم الحقيقي يجب أن يكون أقرب إلى 60 ملياراً.

وازداد تململ دول الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بتلبية بريطانيا لشروطها فيما ارتفع منسوب القلق حيال مدى قدرة حكومة ماي على القيام بذلك حتى لو أرادت.

وسيؤدي الفشل في التوصل إلى اتفاق خلال قمة الشهر المقبل إلى تقليص الوقت المتاح للمحادثات التجارية التي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إنهائها في أكتوبر 2018 لمنح وقت لإقرار اتفاق من قبل البرلمانات المحلية قبيل موعد بريكست في 29 مارس 2019.

ولا تزال مسألة أيرلندا تشكل نقطة خلاف حيث صعدت دبلن تهديداتها بوقف أي اتفاق لا يأخذ بعين الاعتبار مخاوفها بشأن الحدود مع أيرلندا الشمالية التي تحكمها بريطانيا.

وقال مصدر دبلوماسي أوروبي "هناك إجماع على أن الكرة موجودة في معسكر الإنجليز"، مضيفاً "كلما ارتفعت نسبة المماطلة كلما ازداد التضامن "بين الـ 27" قوة".

الخروج الصعب

تدرك ماي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون مفروشاً بالورود لصعوبة المهمة الملقاة على عاتقها، فضلاً عن ذلك فقد تقمصت شخصية تاتشر إلا أنها لا تملك القدرة الكافية للهيمنة على ناصية مفاوضات صعبة، فهي مهمة تبدو مستحيلة، خصوصاً أن رؤساء الدول الأوروبية قد أعدوا عدتهم وعتادهم ليجعلوا من الطلاق البائن بينهم وبين بريطانيا طلاقاً عسيراً حتى يتمخض الجبل ليولد مليارات الجنيهات الاسترلينية التي لا تتحمل أوزارها ميزانية ماي المتأرجحة بين سعر الجنيه الذي هبط إلى أدنى مستوى له خلال سنوات طوال، وبين الكثير من المشاكل الداخلية التي برزت وبقوة على السطح كالتعليم، والصحة، والإسكان، والبطالة.

ففي الوقت الذي تمر فيه الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس في عصور سابقة بأسوأ مراحلها تحاول ماي بكل ما أوتيت من قوة ودهاء إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل عام 2019، الموعد المحدد للخروج من الاتحاد الأوروبي، غير أن فاتورة الطلاق باهظة الثمن قد تدفع ماي وحكومتها إلى التفكير في الخروج من الباب الخلفي للاتحاد الأوروبي طالما تصر أنغيلا ميركل رئيسة وزراء ألمانيا وحلفاؤها على فرض شروط أحلاهم مر.

وكما يقولون، فالمشاكل لا تأتي فرادى حيث تكالبت المصائب على ثاني امرأة ترأس حكومة المحافظين في تاريخ بريطانيا، فبعد سلسلة من العمليات الإرهابية التي ضربت قلب لندن، ومدن أخرى في إنجلترا فضلاً عن الحريق الذي أتى على برج قرين فيل بمن فيه من سكان تجاوز عددهم الـ 500 شخص حسب روايات الناجين، وحاليا تواجه ماي سلسلة من الاستقالات لوزراء حكومتها حيث استقال مؤخراً وزير الدفاع بعد اعترافه بفضيحة التحرش الجنسي، لتلحق به على عجل خلال الأسبوع نفسه وزيرة التنمية الدولية بريتي باتيل نتيجة لعقدها لقاءات سرية مع مسؤولين إسرائيليين دون علم حكومتها التي ثبت بالدليل القاطع أنها آخر من يعلم.

أما وزير خارجيتها المقرب بوريس جونسون فيواجه دعوات قوية تطالبه بالاستقالة بعد تصريحه غير المسؤول والمتعلق بمشكلة الصحافية البريطانية التي تواجه عقوبة السجن في إيران. وتورط جونسون في جدال بشأن ليبيا بعد تعليقات أدلى بها وقال فيها إن على الليبيين "التخلص من الجثث" أولاً لكي تصبح البلد جذابة للسياح والمستثمرين كما تواجه حالياً 40 عضواً.

مؤتمر هزلي

وما زال الناخب البريطاني ينتظر تلك الوعود التي اختتمت بها تريزا ماي خطابها خلال اليوم الأخير لمؤتمر الحزب السنوي بالدعوة إلى الوحدة كما وعدت بإجراء إصلاحات بينها برنامج إسكاني جديد في محاولة لاستقطاب الناخب الذي عاقبها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي دعت إليه لتعزيز قبضتها على الحزب والسلطة ولكن خاب أملها وهي تحاول إنقاذ السفينة الغارقة في بحر الخلافات والنزاع على الزعامة.

وخلال خطابها أمام مؤتمر المحافظين فوجئت ماي بأحد المشاركين وهو الكوميدي سايمون برودكن يسلمها نموذجاً يعبئ لدى الرغبة في ترك الوظيفة قائلاً إن وزير الخارجية المشاغب بوريس جونسون هو من أرسله وهي إشارة واضحة أن الحلفاء أصبحوا يستعدون لسيناريو كانت تخشاه ماي.

وما إن واصلت خطابها، حتى أصيبت بسعال استمر طيلة مدة الخطاب.

وما زاد الطين بلة بدأ سقوط بعض حروف الشعار المرفوع على الجدار خلفها "بناء بلد للجميع".

كانت تلك نهاية مضحكة لأيام المؤتمر الأربعة في مدينة مانشستر شمال غرب البلاد، والذي خيمت عليه أجواء من الشعور بالأسى وغياب الخطط السياسية الكبرى وفتور التأييد لماي نفسها.

تيريزا ماي دائماً ما تؤكد إصرار حكومتها على إنجاح المفاوضات وفي نفس الوقت تقول إنها مستعدة للتعامل مع أي سيناريو معاكس في هذا الشأن. ويعلق المعلقون أنه في حالة نجاح الخروج من الاتحاد الأوروبي ستواجه حزمة من المشاكل والتحديات الصعبة التي ستفقدها شعبيتها ويتوقع أن تدعو تيريزا ماي رئيسة وزراء المملكة المتحدة التي أضعفها فشلها في الانتخابات التشريعية في 2017، المعارضة لمساعدتها في تطبيق الخروج من الاتحاد الأوروبي في مسعى لإنقاذ وضعها بعد عام من توليها الحكم.

ويبدو أن ماي عازمة على الاستمرار كرئيسة للوزراء بتأكيدها "إنهاء الظلم وإعطاء صوت للجميع" في بريطانيا، كما وعدت بأن تبذل كل جهدها لكي يتمكن "كل جيل جديد من بناء مستقبل أفضل".

وأعلنت مؤخراً عن استثمار ملياري جنيه استرليني في مشاريع سكنية ووعدت بتركيز جهودها على رأس الحكومة من أجل حل مشكلة النقص في المساك كما وعدت كذلك بالعمل على الحد من ارتفاع فاتورة الكهرباء والتدفئة.

مشاكل "بريكست"

وفي حالة انسحاب بريطانيا من السوق الموحدة، ستسعى لترتيب جمركي جديد واتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، أما فيما يختص المغتربين، فستقوم الحكومة البريطانية بالتوصل إلى اتفاق مع الدول الأوروبية "في أقرب فرصة" حول حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي في بريطانيا والبريطانيين المقيمين في أوروبا.

وتعهدت الحكومة البريطانية بالوفاء بالتزاماتها لدى مغادرة الاتحاد الأوروبي، لكنها تحت مطالبات قد تصل إلى 50 مليار جنيه إسترليني. وعن مسألة الحدود مع أيرلندا الشمالية تهدف ماي إلى "حدود سلسة وخالية من الاحتكاكات بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا"،

أما الحديث عن السيادة فهي أمور معقدة للغاية بموجبها ستخرج بريطانيا من النظام القضائي لمحكمة العدل الأوروبية، ولكنها تسعى إلى وضع آليات حلول منفصلة لأمور مثل النزاعات التجارية. كما تريد الحكومة البريطانية مواصلة التعاون في مجال الأمن وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وقبل الاتفاق الانتقالي قد تكون هناك حاجة إلى ترتيبات مؤقتة قبل بدء سريان الترتيبات النهائي.

وقد وجهت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي انتقادات لسياسات موسكو، موضحة أن روسيا تحاول التدخل والتأثير سلبياً على الأوضاع الداخلية لعدد من الدول الغربية، بما فيها بريطانيا.

استعداد عمالي للسلطة

وكانت نائبة من حزب العمال المعارض كتبت في تغريدة "لا يمكن أن يسوء الأمر أكثر من هذا. يا لها من كارثة. هذه ليست حكومة، هذه فوضى". أما زعيم حزب العمال البريطاني المعارض جيريمي كوربين، فقد أعلن أن حزبه أصبح التيار السياسي الرئيس وبات جاهزاً لتولي السلطة، عقب التقدم غير المتوقع الذي حققه في انتخابات المقبل.

وقال كوربين، خلال مؤتمر حزبه السنوي في مدينة برايتون، وهو الأول منذ الانتخابات التي خسرتها ماي فيها أغلبيتها البرلمانية، "إن حزب العمال بات على عتبة السلطة".

وأكد زعيم حزب العمال البريطاني المعارض "أصبحنا حكومة في الانتظار"، مضيفاً أن "حزبه جاهز لبناء علاقة جديدة وتقدمية مع أوروبا".

وكان كوربين واجه مقاومة كبيرة من النواب العماليين لقاء محاولاته دفع الحزب نحو اليسار منذ انتخابه زعيماً له في سبتمبر عام 2015.

ولكنه خالف التوقعات عندما فاز حزبه بثلاثين مقعداً إضافياً في انتخابات 8 بناء على مشروع انتخابي حيث وعد بعدة تأميمات وبزيادة ضخمة في الإنفاق العام.

وبعد 4 أشهر من الانتخابات التشريعية التي دعت إليها لكنها جاءت بنتيجة معاكسة، انتهجت ماي خطاب الاعتذار.

وقالت "أنا أتحمل المسؤولية. إني آسفة".

ولكنها حذرت الوزراء الذين جلسوا قبالتها من أن الوقت حان "للنهوض واعطاء البلد الحكومة التي تحتاجها يجب أن ينصب تركيزنا على توفير فرص العمل للجميع".

وبعد كل هذا هل تصبح ماي رئيسة وزراء سابقة أرغمتها مشاكل الدولة التي أربكتها وأربكت الناخب البريطاني الذي صوت لها علي الخروج من الاتحاد الأوروبي، على ترك سلطة دانت لها على طبق من ذهب الأمر الذي أجبر رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون على تقديم استقالته، بعد أن حث الناخبين على التصويت لصالح البقاء.