من مشكلات الفكر العربي ترسيخ كثير من أركانه على مفهوم «الثقافة الجمعية». والتراث العربي الإسلامي يعج بالنصوص المقدسة، والنصوص الثقافية والاجتماعية من قصائد وقصص شعبية وأغنيات وملاحم وأدبيات فلسفية تحث على الاجتماع والجماعة وتوطيد العلاقات الجماعية وتوحيد ألوان الجماعة، وتقريب رؤاها، وتوثيق عراها، وتأطير مفاهيمها.

والثقافة الجمعية أو الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي، مع مراعاة ما بين المفاهيم الاجتماعية السابقة من فوارق خاصة وعامة، تشير إلى المشتركات بين الجماعة من عواطف وأحكام وأفكار وعادات سلوكية. كما تشير إلى عمليات التضامن الآلي والالتحام التي تتم بين أعضائها. وهي سمات يرى علماء الاجتماع أنها غالبة في المجتمعات الأقل تقدماً وتتلاشى في المجتمعات المتقدمة التي تتميز بالحرية الفردية والفكرية في مختلف اتجاهاتها.

من أجل ذلك وجدنا في أدبياتنا العربية الحديثة ارتباكاً واضحاً في ضبط مفهوم الدولة والأمة. وفي أولوية توصيف هوية تاريخنا وأمتنا، هل هو تاريخ عربي إسلامي، بالتالي نحن أمة عربية إسلامية، أم أن تاريخنا إسلامي بالدرجة الأولى عربي بلغته وقيادته، بالتالي نحن أمة إسلامية عربية!! منشأ هذا الاختلاف الذي، كثيراً، ما تحول إلى خلاف، أننا منشغلون بتحديد صبغة الجماعة كي نتمكن من تثبيت السمات العامة والأكثر شيوعاً التي يجب أن تغلب على الجماعة، ومن ثم فرز السمات الهامشية وإقضاؤها من الجماعة.

وعلى الرغم من الدور المهم الذي نهضت به «ثقافة الجماعة» في تقوية الإمبراطوريات العربية وديمومتها لبضعة عقود، غير أنها، في مساحات ايديولوجية وعرقية، سببت لها الكثير من الأزمات التي توارثتها الأجيال حتى وصلت إلينا فتورطنا نحن اليوم بتلك الأزمات. حيث يؤدي الإصرار القسري على ترسيخ «ثقافة جماعية» في أمة ما إلى بروز نزعات فكرية تقوم على رفض الاختلاف والتنوع، وعدم قبول الآخر بوجهة نظره وهوياته المتعددة. ومحاربة من يناقش ثقافة الجماعة أو يقترح تطويرها وتجديدها أو توسعتها، واتهامه بتهم الخيانة والانقلاب والانسلاخ عن الإجماع، فيكون مصيره نبذه وفصله عن الجماعة شبيها بمصير الصعاليك الذين طردتهم القبائل العربية في تاريخها القديم، والذين كان بعضهم مصلحين مخالفين للثقافة الجمعية للقبيلة.

في المقابل، فإن مفهوم «الضمير الفردي» لم يجد طريقاً سالكة ليتسلل إلى الثقافة العربية بما يكفي لأن يتحول إلى «اتجاهٍ اجتماعي عام». فالضمير الفردي يقوم في الأساس على الالتزام بالمسؤولية الفردية. وعلى حصيلة الخبرات الاجتماعية والإنسانية التي اكتسبها الإنسان في حياته بوعي وإدراك في مجتمع صحي. وهذه الخبرات تساعد الإنسان وجدانياً على فهم المسؤولية الأخلاقية للسلوكيات التي ينتهجها وسط مجتمعه وبذلك يميز بين الحق والباطل بناء على وضعه في المجتمع، وإجراء عمليات تقريب للقيم والمبادئ الضابطة للحياة العامة للناس والحياة الاجتماعية الخاصة بالأفراد.

وأهمية «الضمير الفردي» أنه رقيب ذاتي يعينه الإنسان على نفسه في غياب رقابة المجتمع. وأنه خيار فردي في مواجهة المستجدات التي تفرضها الحياة الاجتماعية والثقافية يختاره الإنسان بما يتناسب مع خصوصيته ولا ينتظر فيه إجماع الجماعة ليلتزم به حتى لو لم يقتنع به أو كان الاختيار الجماعي مزعجا لخصوصية الفرد واحتياجاته.

وليس التحول من «الضمير الجمعي» إلى «الضمير الفردي» بالعملية السهلة. إنه يحتاج أدوات انتقالية تفرز أولاً قيم «الفزعة» التي تغذي السلوكيات الجماعية السلبية المرددة لما تقوله الجماعة دون وعي أو تفنيد. ثم انتخاب القيم الجماعية التي لا تتعارض مع الضمير الفردي، بل ترشده في تمييزه بين الخير الشر والنفع والمضرة. ثم عقد عملية اتزان بين ضبط سلوك المجتمع وحرية الفرد في التفكير والاختيار والإنجاز.

ثمة أمم تمكنت من الاستمرار بقوة واتساق وانسجام بالحفاظ على السمات الجماعية لها مثل الهند والصين، وثمة أمم أخرى استطاعت النهوض بقوة واتساق وانسجام بالحفاظ على الخيارات الفردية والتميز الذاتي بين مكوناتها، مثل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وكل تجربة لها خصوصياتها. ففي أي اتجاه يناسبنا نحن العرب أن نسير؟