قبل بضعة أسابيع، صادفته لأول مرة في قاعة انتظار قسم الأشعة بمجمع السلمانية الطبي.. صبيٌ صغير تشير ملامح وجهه إلى عمره الذي لا يتجاوز -في أحسن التقديرات- عشرة أعوام.

كان الطفل «قاسم» برفقة والده منتظراً الدخول إلى غرفة الأشعة، مرتدياً الكمام الطبي فيما يغطي الشاش كف يده اليمنى التي استغرقتها آلام وخز الإبر المتكررة – على ما يبدو. لم يكن قاسم خائفاً أو متردداً أو حتى وجلاً.. بل كان رجلاً..

من موضع انتظاري، كنت أراقب هذا الطفل الصغير الذي شدّ انتباهي منذ وقعت عيناي عليه للوهلة الأولى. صبره على الانتظار.. لا بل صبره على الوجع.. سعة باله.. ثباته.. ثقته بنفسه عندما تقدم بمفرده لحظة نودي باسمه.. وحتى بعد أن تبين في أشعته ما لا يسرّ، كما بدا من حديث طبيب الأشعة مع والده، كان البطل قاسم مبتسماً، قوياً، وصبوراً..

علمت لاحقاً أن قاسم أحد الأبطال الذين شاء القدر أن يجعلهم في مواجهة شرسة مع مرض السرطان، ومثل قاسم عشرات.. مئات.. وربما آلاف..

طيلة الوقت الذي كنت أتأمل فيه ذلك الطفل كان سؤالاً واحداً يملأ صدري.. من أين جاء قاسم بكل تلك القوة؟ والإجابة جاءتني مباشرة عندما احتضن الوالد ابنه حضنَ صاحب وصديق أكثر من كونه حضن أب.. وانصرفا..

نعم.. إنه الدعم النفسي، العامل المهم والكبير في مرحلة العلاج من الأمراض المستعصية، وعلى رأسها السرطان، إذ تنوه كثير من الدراسات الطبية إلى حاجة مرضى السرطان للدعم النفسي، وأن هذا الجانب لا يقل في أهميته عن الجانب العلاجي أو الدوائي.

ومن المعروف أن معظم أنواع السرطانات تظهر فجأة بدون سابق إنذار، بمعنى أن أي شخص من الممكن أن يصاب بأي منها في أي وقت، سواء كان طفلاً أم شاباً أو كبيراً في السن، ولذلك من المفيد أن يتحقق قدر معين من المعرفة لدى عامة الناس حتى يكون الناس أكثر تقبلاً وتفهماً للمرض.

وأمام الأعداد المتزايدة من مرضى السرطان، إذ يشير التقرير التجمعي لمعدلات الإصابة به بدول مجلس التعاون إلى تسجيل حوالي 165000 حالة خلال الفترة من 1998 إلى 2012، إزاء ذلك نجد أن مسؤولية الدعم النفسي لمرضى السرطان لا تقتصر على المستشفيات فحسب بل إنها مسؤولية المؤسسات الأهلية أيضاً.

الشركات والبنوك وكافة مؤسسات القطاع الخاص من المفترض أن تتحمل مسؤوليتها المجتمعية في هذا الصدد، ومن الجميل لو تبنت هذه المؤسسات فعاليات وبرامج وحملات نوعية تخدم مثل هذه الفئات في المجتمع.

يتزامن هذا الحديث مع انطلاق الحملة الخليجية للتوعية بالسرطان في الفترة من الأول وحتى السابع من فبراير، تحت شعار «40% حماية 40% شفاء»، حيث يجدر التذكير هنا بأهمية نشر ثقافة مضادة للفكرة السائدة عن هذا المرض بأنه مرض خبيث يشعر كثير من المصابين به بالخجل من الحديث عنه مما يدفعهم إلى التكتم عليه عند الإصابة به، خشية التعرض لفضول المحيطين بهم وعدم القدرة على الإجابة عن أسئلتهم.

ومن المؤسف أيضاً أننا لانزال في مجتمع تقترن فيه فكرة الإصابة بالسرطان بالموت مباشرة، لذلك نجد أن معرفة أية أسرة بإصابة أحد أفرادها بهذا المرض من شأنه أن يزلزل أركان هذه الأسرة، لا بل قد يصيبها بالشلل، والشعور بالعجز التام -للوهلة الأولى- وعدم القدرة على التصرف، أو جهل كيفية التصرف، أو التعامل مع الموقف.

وهنا يأتي دور الفريق الطبي المشرف على الحالة في احتواء «صدمة» المريض وذويه، وامتصاص رهبة الموقف، ورسم استراتيجية التعامل معه.

الدعم الذي نتحدث عنه يجب أن يبدأ من لحظة مصارحة المريض وذويه ويستمر طيلة مراحل العلاج، ذلك أن اكتشاف الإصابة بمرض السرطان لا يمثل للكثير من الناس مجرد مواجهة مرض يهدد حياتهم، بل يشعر جلّ المرضى بالحزن والخوف وبمواجهة أصعب اللحظات في حياتهم، وهو شعور طبيعي تماماً، وفي هذا الوقت يكون المرضى بحاجة لمساعدة أخصائيين نفسيين يعبرون بهم هذه المرحلة الحرجة ويهيئونهم للتعايش مع المرض وتقبل العلاج وأعراضه الجانبية تمهيداً للعودة لحياتهم الطبيعية بعد انتهاء فترة العلاج.

* سانحة:

حافظوا على أحبتكم جيداً.. اعتنوا بقلوبهم.. فغداً قد يرحلون.. فتندمون.