الثابت يقول بأن الدولة تصرف اليوم ملايين الدنانير على البشر وعلى الأعمال في القطاع العام، وأن الموازنة السنوية تتضمن مبالغ مهولة وكبيرة تصرف ضمن بند المصروفات، والمنطق يقول بأن مقابل أي صرف لا بد وأن تكون هناك إيرادات، سواء مالية أو أقلها إنتاجية على هيئة إنجازات وتحقيق لأهداف.

هذه هي المعادلة المنطقية التي يفترض أن تبرمج أي دولة عليها عملياتها، بحيث يكون الاستثمار في البشر والأعمال له نتائج إيجابية ومردود ملموس على الوطن والمواطن.

لدينا ديوان للرقابة المالية والإدارية، يعمل على رصد المخالفات المالية والإدارية، والمزعج في المسألة أن هذه التقارير تصدر سنوياً، وحجمها يتنامى، وتتضمن عديداً من الحالات التي لو عولجت منذ البداية لما تفاقمت وكبرت وزادت.

تخلص التقارير لتبين بأن هناك هدراً مالياً كبيراً، وأن هناك سوء إدارة، واستهتاراً إدارياً، يؤثر على إنتاجية العمل، ويدمر كفاءات ونفسيات يفترض أنها ثروة لهذا الوطن.

مشكلتنا ليست اليوم في عمليات "التشخيص" بمعنى كيف نحدد مواضع الخلل، وأين يكمن القصور، بل مشكلتنا الحقيقية مرتبطة بالعمليات المفترض القيام بها بعد عملية التشخيص، ونعني هنا بـ"تحديد العلاج"، وكيف يكون الإجراء الذي يحد وينهي عمليات التجاوزات ويمنع الخلل ويتصدى للقصور.

حالنا كمن يذهب للطبيب وهو يعاني من مرض ما، فيقوم الطبيب بتشخيصه ويكتب له الدواء ويحدد له طريقة السير عليه كبرنامج علاجي، ثم يخرج المريض من عند الطبيب ويرمى الدواء في سلة المهملات، ولا يكترث ببرنامج العلاج، ثم يأتي بعد فترة للطبيب مرة أخرى، ويقول له "مازلت مريضاً ولم أشفَ"! كيف تريد الشفاء وأنت لا تلتزم بالعلاج؟!

المشكلة اليوم ليست معنية برصد المخالفات والتجاوزات فقط، بل يفترض اليوم أننا تعدينا هذه المرحلة، ودخلنا مرحلة أكثر تقدماً تكشف لنا مردود الاستثمار في البشر والعمل، باعتبار أن الدولة تصرف الملايين على عمليات التوظيف وتأهيل الكوادر، والهدف من ذلك تحقيق المردود والنتائج الإيجابية، والتي تساعد على تحقيق التغيير للأفضل.

اليوم نحتاج وبشكل جاد لقياس "الأثر" ولقياس "العائد" من الاستثمار في هذا الجانب، ولست أتحدث هنا عن عمليات "تنظيرية" تتحدث عن قياس العائد والأثر بشكل نظري أو افتراضي، على شاكلة المعادلة القائلة "لندرب الكوادر حتى نعد جيلاً للمستقبل"، وفي الجانب الآخر نضع هذه الكوادر "على الرف" ونترك المجال للمفسدين إدارياً لتحطيمهم وإحباطهم وتحويل بيئات العمل لبيئات طاردة.

تحتاج الدولة لجهة رفيعة المستوى تتبع رئيس مجلس الوزراء أو نائبه الأول مباشرة وتعمل بنفس آلية ديوان الرقابة المالية والإدارية، وتقوم بزيارات فجائية "غير مبرمجة" عكس ما يفعل ديوان الرقابة، تطلع على سير العمل في القطاعات، وتقدم تقارير مفصلة لرأس الحكومة معنية بأساليب العمل، ومنهجيات الإدارة، ووضع الموظفين، وقياس مدى رضاهم عن الإدارة، وأيضاً قياس نسبة رضا المتعاملين والمستفيدين من المواطنين، وتحدد جوانب القصور التي يجب أن تعالج سريعاً، وتقيم وعود التصحيح من المسؤولين، بحيث تبين ما إذا كان المسؤول عن القطاع جاداً فيما يقوله ويعد به الحكومة المسؤولة عنه، أم أنه "منبع للكلام" فقط و"يخيط ويبيط" في القطاع على مزاجه، معتمداً بأنه لا رقابة عليه، وإن كانت من رقابة ممثلة بديوان الرقابة، فإنه لا إجراءات عليه.

مثل هذه الجهة المعنية بالتقويم والقياس وتحديد الأثر، تكون أساساً لعمليات تغيير القيادات العليا في القطاعات، من لا ينفع في مكانه، ويمضي للإضرار بالوطن والمواطنين من موظفين ومتعاملين، هذا وجوده "في البيت" أفضل للمجتمع، ومن يجيد ويعد مكسباً لموقعه، هذا يكافأ بالتمديد والتقدير والدعم.

لو فقط نصحح الأخطاء، ونبدل السلبيات بإيجابيات، ونغير السيئ بالأفضل والمؤهل، لتغير حالنا كثيراً.

نريد هيئة تتأكد من الالتزام بالعلاج، بعد التشخيص الذي يقدمه ديوان الرقابة، نحتاج لثورة تصحيحية جادة لا تتوقف عند اعتبارات الأشخاص، ولا ترحم المسيء للوطن من خلال أخطائه وتجاوزاته. هيئة تحفظ المال العام، وتحمي الموظف والمواطن.