تحتفي الأوساط الثقافية في مصر بعودة لوحة رائد الفن التشكيلي الفنان عبد الهادي الجزار، والتي تحمل اسم "من وحي فنارات البحر الأحمر"، وأعلنت وزارة الثقافة المصرية تسلم اللوحة وخضوعها للفحص، الذي أثبت أنها أصلية وبحالة جيدة، الثلاثاء.

ويعد عبد الهادي الجزار (1925- 1966) أحد رواد الحركة التشكيلية في الوطن العربي، وقد نالت أعماله عشرات الأوسمة والجوائز الدولية.

رحلة مليئة بالمفارقات



قطعت لوحة "من وحي فنارات البحر الأحمر" رحلة مليئة بالمفارقات، منذ تقدم بها عبد الهادي الجزار للحصول علي جائزة الدولة التشجيعية عام 1965 ضمن مجموعة أعمال أخرى، وبدأت الرحلة بإعارتها لمكتب وزير الثقافة القديم في حي جاردن سيتي الفاخر بالقاهرة عام 1971، وهو تاريخ آخر مستند رسمي لإعارة اللوحة.

وعلى مدار نصف قرن هي الفترة الزمنية التي اختفت فيها اللوحة من موقعها كقطعة منسية على جدران مقر مبني الوزارة الذي خضع بعدها للهدم وإعادة البناء، وفي تلك الأثناء آلت اللوحة إلى مقاول الهدم محمد عبد الملك باعتبارها "قطعة روبابيكيا"، لتستقر في مخازن شركته مع الأبواب والنوافذ القديمة.

وبعد وفاة محمد عبدالملك، وجد هشام عبدالملك اللوحة في مخازن الوالد الراحل عن طريق الصدفة، وقرر تزيين مقهى يملكه في حي شبرا الشعبي بالقاهرة الكبرى باللوحة كبيرة الحجم دون أن يدرك قيمتها الفنية، لكن أحد رواد المقهى أدرك قيمتها فور رؤيتها، وحاول إقناعه ببيع اللوحة مقابل مليون جنيه مصري (أي ما يزيد على 53 ألف دولار أميركي)، وفي الوقت نفسه تواصل مع مالك أحد جاليريهات القاهرة لتقييم اللوحة.

على الفور توجه صاحب الجاليري إلى ابنة عبد الهادي الجزار لمحاولة التأكد من مصدر اللوحة، وتكاثرت التساؤلات بشأنها، الأمر الذي دفع قطاع الفنون التشكيلية في مصر إلى إصدار بيان حذر فيه من التعامل على اللوحة.

ولحسن الحظ أدرك مالك اللوحة قيمتها وأهمية إعادتها إلي وزارة الثقافة، وبادر بالتواصل مع وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم وأعاد اللوحة، بينما كرمته الوزيرة لتصرفه النبيل.

بوابة "الإعارات الفنية"

فيروز الجزار، نجلة الفنان عبد الهادي الجزار وأحد أعضاء مجلس أمناء مؤسسة فنية تحمل اسمه، أعلنت سعادتها بعودة اللوحة، وكشفت عن سعيها من خلال مؤسسة الجزار إلى إصدار كتالوج لمنع تزوير ووقف بيع اللوحات المسربة أو المختفية.

وتقول فيروز: "نحاول حصر جميع أعمال الجزار بكل تفاصيلها، فحماية تراثه ليس مسؤولية المتحف أو الوزارة فقط، إنما هو تراث وطني لا بد أن يتعاون الجميع لحمايته".

وتضيف: "لا بد من حفظ أعمال الرواد رقمياً وفهرستها وإصدار كتب تضم هذه اللوحات، حتي لا يمكن تزويرها أو تسريبها، كذلك لا بد من عمل جرد دوري عبر لجان خارجية محايدة".

وتلفت فيروز إلى أن البوابة الأكبر لتسريب الأعمال الفنية هي الإعارات، فتقول: "لا بد أن تتوقف فوراً، داخلياً وخارجياً لأية جهة".

"إنسان السد العالي"

تقول الفنانة التشكيلية الدكتورة إيناس الهندي، المتخصصة في أعمال الفنان عبد الهادي الجزار، إن "اللوحة من الأعمال المهمة للجزار، إذ تنتمي للمرحلة الثالثة من مراحل تطوره الفني، والتى تعنى بعلاقة الإنسان بالآلة وإنجازات الثورة والتقدم العلمي وغزو الفضاء، وهي واحدة من أكثر مراحل أعمال الجزار عمقاً وثراء بالتفاصيل".

وتضيف الهندي: "حاول البعض التقليل من أهمية اللوحة لكنها مرحلة شديدة الثراء والعمق في حياة عبد الهادي الجزار، الذي تقدم بهذه اللوحة ضمن مجموعة شهيرة من أعماله للحصول علي جائزة الدولة التشجيعية، أبرزها لوحة (إنسان السد العالي)، التي اختفت أيضاً في ظروف مشابهة".

وتنقسم أعمال عبد الهادي الجزار إلى 3 مراحل من تطوره الفني، أولها مرحلة محاولة استكشاف الإنسان الأول وكيف بدأ الكون، ثم المرحلة الثانية التي بحث بها فى ميثولوجيا الحياة الشعبية والموروث الشعبى، وأخيراً مرحلة إنجازات الثورة والتقدم العلمى وغزو الفضاء، والتي تنتمي إليها أهم أعماله مثل لوحة "إنسان السد العالي"، التي تقول إيناس الهندي إن "الجزار تقدم بها أيضاً لنفس الجائزة، ثم أعيرت إلي أحد مكاتب "الاتحاد الاشتراكي"، والذي تم حله لاحقاً في سبعينات القرن العشرين، وفقدت اللوحة منذ ذلك الوقت".

قصة مكررة

ويقول الناقد والفنان عز الدين نجيب إن عودة لوحة "من وحي فنارات البحر الأحمر" استندت بالأساس إلي وطنية الشاب حائز اللوحة، لكن لا تزال الكثير من الأسئلة عالقة حول وقائع الإهمال التي تسببت بضياعها من البداية.

ويضيف: "المشكلة الأكبر لا تزال قائمة، وهى عدم توافر الضمانات اللازمة للحفاظ على تراث مصر من الأعمال الفنية فى المتاحف التابعة للدولة، لأن هذه ليست الواقعة الوحيدة بل هناك عشرات من وقائع السرقة والاختفاء الغامض لأعمال فنية على مدى نصف قرن، وفي بعض هذه الحالات تعتبر وزارة الثقافة مسؤولة بشكل مباشر عن فقدانها لأنها كانت تعيرها إلى جهات خارجية أو داخلية دون أن تتابع مصيرها".

ويتابع: "الإهمال يبدأ منذ خروج اللوحة من المتحف بدون قرار يحدد مدة إعارتها، أو متابعة الجهات التى أعيرت إليها، واسترجاعها في حالة تعرضها لأي ظرف غير ملائم، وأن تتخذ الإجراءات القانونية بعد تبين فقد العمل، وهذا كله لم يحدث مع هذه اللوحة ولا مع أية لوحة معارة، وكأنها خرجت من مسؤولية وزارة الثقافة للأبد".

"الموظفون لا يضيعون العهدة"

يكثر توجيه اللوم إلي موظفي وزارة الثقافة، لكن رئيس قطاع الفنون التشكيلية خالد سرور يرفض ذلك عبر الإشارة إلى أن الموظف في النهاية مقيد بقوانين قد تلقي به في السجن عند التقصير في عمله، ويقول إن "تعامل موظفي القطاع مع الأعمال الفنية ليس كما يتصوره البعض، هذه الأعمال الفنية عهدة، لا يمكن للموظف التفريط فيها وإلا دخل السجن، ولعل كثيراً من الناس لا يعلم أن فتح وإغلاق المتاحف يتم وفق محضر تشرف عليه شرطة السياحة كل يوم ويتم وفق ضوابط".

ولا ينكر سرور أن وضع الإعارات الفنية كان سبباً في اختفاء الكثير من الأعمال، ويقول: "مع الأسف هناك كثير من الأعمال المسربة والغائبة من قبل تغيير قوانين الإعارة مؤخراً"، لكنه يؤكد أنه تم وضع ضوابط صارمة للإعارات الفنية، إذ أصبح خروج أي عمل فني من متاحف وزارة الثقافة لا يحدث إلا بقرار وزاري محدد بمدة زمنية، ومن خلال لجنة معاينة تتولى الفحص الدوري للأعمال بشكل سنوي".

في الوقت ذاته أكد أن الوزارة تؤمن بأن إعادة فتح المتاحف المغلقة هو أهم سبل حمايتها، لكنه مع ذلك تمسك بالتأكيد على أن "حتى المتاحف المغلقة تكون مقتنياتها بداخلها وتخضع للرقابة"، حيث تخضع لجرد سنوي يتم لكل الأعمال الفنية المعارة والمعروضة، أو تلك التي لا تزال في مخازن الوزارة.