شهدت طبيعة العمل في العقود الأخيرة تحولاً ملحوظاً، بفعل انتشار التكنولوجيا والخدمات المرتبطة بالإنترنت، مما أتاح للمديرين البقاء على اتصال مع موظفيهم على مدار الساعة.

وفي حين أن دخول التكنولوجيا إلى عالم الأعمال، قد ساهم في تطور سوق العمل وتعزيز الإنتاجية، فإن سهولة التواصل التي وفرتها هذه التكنولوجيا قد تسببت أيضاً في القضاء على الحدود الفاصلة بين أوقات العمل وأوقات الراحة، ما أثر سلباً على التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية، ليجد الموظفون أنفسهم في مواجهة ضغوط الاستجابة الفورية، لمتطلبات المديرين حتى بعد انتهاء ساعات الدوام.

وهذه المعضلة، أدت إلى تجاذبات واسعة بين الدول والشركات، حول كيفية التعامل مع تحدي تحقيق التوازن الصحي بين العمل والحياة الشخصية، فإصرار بعض المؤسسات على عدم وضع حدود فاصلة بين أوقات الراحة والعمل، دفع العديد من الدول، إلى إقرار قوانين تسمح للموظفين بتجاهل الرد على مديريهم بعد ساعات العمل.

أحدث دولة تتبنى "حق الانفصال" عن العمل

وبحسب تقرير أعدته " CNBC" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فقد أصبحت أستراليا أحدث دولة في العالم تتبنى تشريعات، تسمح لموظفيها بـ "حق الانفصال" عن العمل، ما يعني أنه بات بإمكان الموظفين في أستراليا، تجاهل الرد على اتصالات مديريهم بعد انتهاء ساعات العمل القانونية.

وبموجب التشريع الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ يوم الإثنين الماضي، فإنه لن يُسمح للمؤسسات في البلاد بمعاقبة الموظفين بسبب عدم الرد على هواتفهم، أو الرد على رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل، وهو الإجراء الذي تم تنفيذه حتى الآن في الغالب في الدول الأوروبية.

ويشترط التشريع الأسترالي الجديد أن يكون تطبيق خيار "حق الانفصال" عن العمل من قبل الموظفين، غير مرتبط بأمر خطير وضروري جداً، حيث ستقوم لجنة العمل العادلة في أستراليا، بتحديد ما هي الأمور الضرورية، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل طبيعة دور الموظف، ومستوى مسؤوليته وطريقة الاتصال به، ومدى الإزعاج الذي يمكن أن يسببه الاتصال.

دول تُطبق "حق الانفصال" عن العمل

وأستراليا ليست الدولة الوحيدة التي تسمح لموظفيها بتجاهل الرد على اتصالات المديرين بعد الدوام، بل سبقتها إلى ذلك العديد من الدول أبرزها:

فرنسا

في عام 2017، أقرت فرنسا "حق قطع الاتصال" برسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالعمل بعد انتهاء الدوام، حيث يتعين على الشركات التي تضم 50 موظفاً أو أكثر، التفاوض مع ممثلي الموظفين لتحديد موعد الاتصال بالعمال، عبر وسائل الاتصال الإلكترونية. ويؤدي عدم الامتثال لهذه القواعد، إلى فرض غرامة تصل إلى 1 في المئة من إجمالي تعويض العامل.

بلجيكا

على نحو مماثل، منحت بلجيكا منذ عام 2022 العمال، الحق في تجاهل الرسائل المتعلقة بالعمل بعد ساعات الدوام. وكان الأمر في البداية مخصصاً لموظفي الخدمة المدنية فقط، ثم توسع التشريع ليشمل الموظفين في القطاع الخاص، الذين يعملون في شركات تضم 20 موظفًا أو أكثر.

البرتغال

في البرتغال، يُحظر على أصحاب العمل الاتصال بالموظفين بعد ساعات العمل، فيما يطلق عليه القانون "الحق في الراحة". كما يحق للموظفين، الحصول على 11 ساعة متواصلة على الأقل من "الراحة الليلية"، والتي لا ينبغي إزعاجهم خلالها إلا في حالة الطوارئ.

إسبانيا

يحق للموظفين في إسبانيا، قطع الاتصالات الرقمية المتعلقة بالعمل، خارج ساعات العمل المحددة بهدف تعزيز التوازن الجيد بين العمل والحياة.

أيرلندا

اعتمدت أيرلندا على قائمة ممارسات، بشأن حق الموظفين في قطع الاتصال بشركاتهم، حيث تمنح هذه القائمة العمال، الحق في عدم الاهتمام بأمور العمل خارج ساعات الدوام، كما تفرض على أصحاب العمل احترام حقوق موظفيهم في هذا المجال.

إيطاليا

بالنسبة لإيطاليا، ينطبق قانون "قطع الاتصال" بشكل أكثر، تحديداً على أسلوب العمل عن بعد، فالتشريع المتعلق بهذا الأمر، ينص على أن كل اتفاقية عمل عن بُعد، يجب أن تحدد فترات راحة محددة، وتدابير لانفصال الموظف بشكل تام عن الأجهزة المتعلقة بالعمل.
من التالي؟

بحسب تقرير لـ "CNBC" فإن المملكة المتحدة تسير على الطريق الصحيح، لتبني قوانين وتشريعات تتيح للموظفين تطبيق خيار "حق الانفصال" عن العمل دون التعرض لعقاب من أصحاب العمل، إذ وجد اتحاد المهنيين البريطاني، بروسبكت، أن ما يقرب من 60 في المئة من الموظفين في البلاد، يؤيدون الحق في الانفصال وعدم الرد على المديرين بعد انتهاء الدوام.

أضرار قوانين "حق الانفصال" عن العمل

ويقول الخبير في الإدارة المالية حسان حاطوم، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، رغم أن القوانين التي تسمح للموظفين بعدم الرد على المديرين بعد انتهاء ساعات العمل قد تبدو وكأنها خطوة إيجابية تهدف إلى تحسين جودة حياة الموظفين وتعزيز رفاهيتهم، إلا أنها تحمل في طياتها مجموعة من الأضرار والتحديات التي قد تؤثر على حسن سير العمل، خصوصاً عند وقوع مشكلات طارئة تستدعي حلاً فورياً، مشيراً إلى أنه في بعض الحالات، يمكن أن يكون التواصل بعد انتهاء الدوام، ضرورياً لضمان استمرارية العمل وعدم تأخير المشاريع، وتحديداً في الأدوار الوظيفية التي تتطلب تنسيقاً مستمراً، بين الفرق أو بين مواقع جغرافية مختلفة، فلا يمكن مثلاً منح العاملين في القطاع الطبي أو الخدمات الطارئة، غطاءً قانونياً يمنع التواصل معهم خارج ساعات العمل.

عوامل تمنع انتشار قوانين "حق الانفصال" عن العمل

وبحسب حاطوم فإنه في بعض الدول يُعتبر الالتزام بمتطلبات العمل حتى خارج ساعات الدوام، علامة على الجدية المهنية والتفاني، ولذلك نرى أن تطبيق القوانين التي تسمح للموظفين بتجاهل اتصالات المديرين بعد ساعات العمل لا يزال محدوداً في العالم، معتبراً أنه من الصعب على بعض الدول الصناعية الكبيرة، مثل الصين واليابان وغيرها تبني مثل هذه القوانين، فالحاجة لحل مشكلات الطوارئ بشكل سريع ومواكبة المتطلبات المتغيرة، في بعض الصناعات مثل الصناعات التقنية تتطلب مرونة من قبل الموظفين، حيث يكون من الضروري التعامل مع المشكلات فور حدوثها، علماً أن بعض الشركات تخشى من أن يؤدي تطبيق قوانين "حق الانفصال" عن العمل، إلى تقليل الإنتاجية، مما قد يؤثر على الأداء العام للشركة وقدرتها على تحقيق الإيرادات.

إجراءات بديلة

ويشدد حاطوم على أن تطبيق قوانين "حق الانفصال" يتطلب تفكيراً عميقاً، وموازنة دقيقة بين مصالح الموظفين ومتطلبات العمل، لذلك وفي ظل تباين الفوائد والمساوئ الناجمة عن مثل هذه القوانين، يبقى الحل الأفضل لتحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعمل، هو تطبيق السياسات المرنة من قبل الشركات والموظفين، حيث تقوم الشركات بتحديد ساعات العمل بوضوح، في حين يحصل الموظف على تعويضات مالية، لقاء أي عمل يقوم به خارج ساعات العمل الرسمية، ولو كان الأمر يتعلق فقط بالرد على الهاتف أو على البريد الإلكتروني، وهو إجراء أفضل من فرض قوانين صارمة على التواصل، بعد ساعات العمل.

إيجابيات منع الاتصالات

من جهته، يقول سامر عبد القادر وهو خبير توظيف وموارد بشرية، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن تطبيق قوانين تمنع الاتصالات بعد ساعات العمل، يمكن أن يسهم في خلق بيئة عمل أكثر صحية وإثمارا، مما يعود بالنفع على كل من الموظفين وأرباب العمل على حد سواء، ومن أبرز هذه الفوائد تحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية، من خلال تقليل الإجهاد لدى الموظفين، وتعزيز صحتهم العقلية وزيادة رضاهم الوظيفي، فعندما يشعر الموظفون بأنهم غير ملزمين بالرد على الاتصالات بعد ساعات العمل، وأن وظيفتهم تتيح لهم قضاء الوقت مع العائلة، فإن نسبة رضاهم عن الوظيفة سترتفع، مشيراً إلى أنه عندما يكون الموظفون واثقين من أنهم سيحصلون على وقت راحة، يكون لديهم حافز أكبر، للعمل بفعالية خلال ساعات العمل الرسمية.

مهن لا يمكن لها تطبيق "حق الانفصال"

ويؤكد عبد القادر أن موضوع تطبيق قوانين تتعلق بتجاهل اتصالات المديرين بعد انتهاء ساعات العمل، مسألة معقدة، فبعض المهن مثل المهندسين والمختصين في الأمن السيبراني، ومديري نظم المعلومات، والمبرمجين والمشرفين على خطوط الإنتاج في المنشآت، ومديري الشحن والخدمات اللوجستية، ومديري المحافظ الاستثمارية، والمحللين الماليين والمحامين المختصين بالقضايا الطارئة، ومهندسي الطاقة، وفنيّي الصيانة والصحفيين والمراسلين، جميعها مهن تتطلب مرونة في التواصل لضمان التعامل الفوري مع المشكلات والأحداث الطارئة، وبالتالي فإن إقرار قوانين صارمة تمنع التواصل بعد انتهاء الدوام، قد ينعكس سلباً على تنافسية هذه الأعمال، ومن هنا يمكن القول إن مثل هذه القوانين، لا يمكن أن تشمل جميع أنواع الوظائف.