بهذا العنوان افتتحت «ثقافية» صحيفة الأيام عددها الصادر بتاريخ 22 يونيو الماضي، في وصف المشهد الثقافي المحلي، على ضوء استطلاع رأي لعدد محدود من المثقفين بالمقارنة بحشود المشتغلين في الوسط الثقافي، وذلك بهدف البحث عن أسباب «الحالة الثقافية الهزيلة»، وللإجابة عن تساؤلات تتعلق بالتراجع العام الذي يعاني منه العمل الثقافي.

وأعتقد بأن الآراء التي استجمعها واستخلصها الاستطلاع، بما حملته من انطباعات تتفق في مجملها على وجود قصور وخمول ثقافي، لهي جديرة بالتأمل والتمعن والاستقراء، وإن كانت أبعاد هذه القضية تستدعي المزيد من البحث والتقصي لتشخيص أسباب هشاشة البنيان الثقافي، فالقراءة الفوقية أو العابرة لهذا الواقع، لن تخرج عن كونها «فضفضة» لحظية، تجاه ما يعتبره المثقفون انقطاعاً لحبل وصلهم مع النشاط الثقافي المحفز لإبداعاتهم.

وعند الخوض في مثل هذا الموضوع المتشعب، لكثرة لاعبيه، وتعدد مساراته، إلى جانب تنوع ألوانه وتقلب أذواقه، فعلينا، أولاً، أن نجري بعض المراجعات الضرورية للحالة الثقافية التي نريد أن نجسّدها في مجتمع مارس وعاصر نهضة ثقافية لاتزال أنوارها تشع في الذاكرة، وإن كانت لا تحظى فصولها بالتوثيق المناسب أو المستحق، ولتبقى أوراقها مبعثرة ومهددة بالضياع والنسيان.

وعلينا، كذلك، أن نتفق، بأن التشخيص العلمي والموضوعي للواقع الثقافي يتطلب حواراً منفتحاً بين مؤسساته، كخطوة أولى، قبل التوجّه لإصلاح أو تطوير ميادين الفعل الثقافي المتنوع بنشاطاته الفكرية، والعلمية، والأدبية، والفنية، والنقدية إلى آخر قائمة هذا الفعل الإبداعي الذي تنضج عبره الشخصية والهوية الوطنية للمجتمعات المتحضرة، وتزدهر، من خلاله، عناصر ثرائها الإنساني بمفرداته المرتبطة بحرية العقل والفكر، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الروح المبدعة والمنفتحة على كل الآراء والاجتهادات والمتمكنة من إدارة أي اختلاف، فالثقافة لغة عالمية علينا أن نتقنها لاستمرارية الغنى المعرفي كعملة حضارية لا يشتريها مال ولا ينتجها نفط.

وإذا اتفقنا على مكانة الثقافة وقدرتها على أن تكون الوقود الحضاري لأية نهضة تنموية مرجوة، وإذا عدنا لننقب في أعماق تاريخنا الثقافي المعاصر بتفاعلاته ومخاضاته التي أنتجت جيلاً استثنائياً اعتمد الثقافة كرافعة لكل إصلاح وتجديد، عندها سيكون الحوار جاداً وصريحاً، لتنطلق من على منصاته مهمة التجديد التي تقع على عاتق المجتمع الثقافي، وهي مهمّة مترابطة لا مفر منها، تبدأ بالمعرفة الذاتية، ومن ثم النقد الذاتي، من أجل بناء ذاتي نتجاوز من خلاله الاجتهادات المتعثرة على ساحات العمل الثقافي.

وهذا يتطلب -بطبيعة الحال- أن يستنفر الوسط الثقافي، بعقوله النقدية والفكرية، لتتوجه بكل ما تملكه من إرادة حية وإمكانات علمية ومعرفية عميقة لتحديد مَواطن الخلل، ورصد متطلبات المرحلة الثقافية الحالية ورسم آفاقها القادمة. وهو فعلٌ ليس بالسهل، ولكنه، برأينا المتواضع، سيحيي جانباً مغيباً، يستنهض الحركة النقدية بعمقها الأدبي والفكري ومنهجيتها العلمية في البحث والتقصي، إلى جانب إعادة تعريف العمل الثقافي كنشاط عقلي إبداعي وليس كنشاط «مهني» تقوم به -فقط- إدارات بيروقراطية من الموظفين الثقافيين، الذين تقع على عاتقهم، مسؤولية الرعاية والاعتناء بالمشهد الثقافي لاستدامة عطائه عبر إيجاد تجارب متجددة تنتج مشروعات ثقافية، تذكّرنا بما مضى من مشاريع رائدة قدمتها البحرين للثقافة العربية.

سُئل ذات يوم، الناقد المصري الكبير عبدالقادر القط، عن أسباب توقفه عن النقد. فقال بكل بساطة: «الجامعة تأخذ كل وقتي، والنقد يستوجب التفرغ والمتابعة، ومع ذلك تكاد كل منابر النقد أن تكون مشغولة بمحرريها المعنيين».
ونفهم من ذلك، بأنه كناقد يحترم تخصصه، يحتج -ضمنياً- على استباحة قوانين النقد الموضوعية البعيدة كل البعد عن عشوائية التقييم، والمؤدية إلى انسحاب النقاد الحقيقيين وغيابهم عن الواجهة الثقافية، وسيادة ما نسميه بالنقد «الإكسبرس» القائم على الانطباعات الشخصية، وهو ما يخافه كل حريص على متانة الحياة الثقافية لتحصينها من الاقتحامات المتكررة لغير المتخصصين ولا المتفرغين.

وبجردة سريعة لنتائج استطلاع الرأي الذي أشرنا إليه في مقدمة المقال، فالمشاكل التي تلم بالمشهد الثقافي العام عديدة، كخمول المراكز الثقافية، وشح الفعاليات النوعية، وغياب يطول لحركة مسرحية جادة، وضعف الدعم والاهتمام الرسمي، وقلة الإنتاج الإبداعي الفردي أو الجماعي، وعزوف الشباب عن التخصصات الثقافية أو الفنية.. إلخ، وجميعها بحاجة إلى دراسة متأنية، وإلا ستستمر بكائياتنا وسنظل نراوح مكاننا.

وما لم يخضع العمل الثقافي العام لمشرط النقد الذاتي على أيدي محترفيه، وعلى قاعدة أهل مكة أدرى بشعابها، فستظل أية رؤية أو استراتيجية عمل كالدواء المنتهي الصلاحية، وهي تدور في فلك الأنشطة العالمية، احتفالاً باليوم كذا وباليوم ذاك، وتنشغل بالمنسوخ من التقارير الدولية، مبتعدة عن جذور التربة الخصبة للإنتاج الثقافي البحريني، بقيمته الحضارية والفكرية، التي وصفها مفكر البحرين د.الأنصاري، بأنها أقدم وأعرق من الغوص بحثاً عن لآلئ الخليج.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة