طالما درج الناس على اللجوء إلى تعبير «الخاصرة الرخوة» في سياق المعالجات السياسية لتشخيص العضو الأكثر عرضة للتأثر في جسم المنطقة التي يجري الحديث عنها، فبوسعنا القول إن الخليج العربي، ربما يكون في المستقبل المنظور، بمثابة الخاصرة الرخوة في الجسم العربي. قد يخالفني البعض، وله كل الحق في ذلك في هذا الرأي ويرى أن العكس هو الصحيح، حيث ينعم الخليج بثرواته النفطية القادرة على الاحتفاظ بمجتمع مستقر نسبياً، كما أن القوى الاجتماعية القادرة على إحداث أي شكل من أشكال التغيير لم تتبلور بعد، وهي، إن وجدت، ماتزال في مراحلها الجنينية، مما يجردها من متطلبات التصدي لعملية التغيير المطلوب، بما تشمل من دينامية سياسية ومؤهلات قيادية.
لكن مسارات التاريخ، بما حوته من تغييرات نوعية مست مجتمعات، بما فيها المجتمع العربي، تلقننا دروساً مغايرة لذلك. ويمكننا الاستعانة بما جرى في روسيا القيصرية في العقد الثاني من القرن العشرين، عندما نجح البلاشفة، وعلى نحو غير متوقع في الإطاحة بحكم القيصر، وبداية التأسيس لأول حكم شيوعي، ليس في أوروبا فحسب وإنما في العالم قاطبة. كانت الأنظار في تلك المرحلة التاريخية، متجهة نحو ألمانيا، حيث المجتمع الأكثر تطوراً بالمقاييس الرأسمالية التي جاء على ذكرها كارل ماركس في كتابه الموسوعي «رأس المال»، وكانت الطبقة العاملة الألمانية الأكثر تنظيما كما كانت تعبر عنها الحركة الاشتراكية الألمانية، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، ليس هنا مجال الغوص في تفصيلاتها. رغم كل ذلك، استمرت ألمانيا كأعتى قلعة للرأسمالية، وتهاوت روسيا أمام ضربات البلاشفة.
بعدها تحدثت التحليلات التي تناولت الظاهرة الروسية، على أن موسكو كانت خاصرة الشرق الأوروبي الرخوة التي نفذت منها الحركة الشيوعية، التي لم تستطع ان تدق قلاع الرأسمالية الألمانية، أو أن تتسلل عبر الثغور البريطانية، أو حتى المدن الفرنسية.
تكرر المنظر، لكن في ظروف مختلفة، ولأسباب مغايرة، عند تناول مسألة تأسيس الدولة الصهيونية، فقد كانت أنظار الحركة الصهيونية متجهة نحو مناطق كثيرة، لم تكن فلسطين لدى نسبة لا يستهان بها من بينها. لكن متطلبات الحركة الاستعمارية - الصهيونية حينها، وجدت في الاستراتيجية البريطانية - الفرنسية العالمية المشتركة في تلك الحقبة التاريخية ضالتها في تشكيل تلك الدولة العبرية، وكانت المنطقة العربية وقتها هي الخاصرة الرخوة المهيأة للخضوع لهذا الباب في تلك الاستراتيجية.
باختصار، وأيضاً دون الدخول في تفاصيل الحالة التي قادت إلى طرد الفلسطينيين من ديارهم وقيام دولة إسرائيل، كانت المنطقة العربية، وفي القلب منها فلسطين، خاصرة العالم الرخوة التي التقت عندها المصالح الغربية مع مشروعات الحكرة الصهيونية، وتكاملت مع العجز العربي كي تكون المحصلة هي تلك الدولة.
المشهد لمسناه يتكرر أيضاً عندما اندلعت الحرب الإيرانية - العراقية في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، وعندما كانت التحليلات السائدة حينها تصر على أن منطقة الخليج بفضل أوضاعها الخاصة التي ولدها اكتشاف النفط وبالكميات الغزيرة لا يمكن أن تستحمل صراعات مسلحة، وإن هي اندلعت فمن غير المنطقي أن تكون على نطاق واسع، وليس أمام من يشعل نارها إلا أن يجعلها سريعة بل وخاطفة. استمرت الحرب العراقية الإيرانية منافية لتلك التوقعات السائدة حينها ما يربو على العقد من الزمان، وكان الغزو الصدامي «نسبة للرئيس العراقي صدام حسين» أحد ذيولها، مما أطال من أمد تلك الحرب ووسع من شقتها.
كثيرة هي الأمثلة، بما فيها المعاصرة القريبة تاريخياً، وفي المنطقة العربية أيضاً، التي تؤكد صحة مقولة «الخاصرة الرخوة». فـ «تونس» على سبيل المثال كانت الدولة العربية الأكثر حداثة، عندما تقاس الأمور بمعايير الدولة الحديثة، مقارنة مع دول مثل ليبيا والجزائر، بل كانت الأكثر حظوة لدى الدوائر الغربية، من شقيقاتها العربيات مثل سوريا واليمن. رغم ذلك كانت تونس هي الدولة العربية التي تضافرت فيها الأوضاع الداخلية، مع مشروعات الاحتكارات العالمية كي تندلع منها شرارة نيران ما أصبح يعرف اليوم بـ «الربيع العربي»، الذي انتشرت تداعياته في شكل موجات متلاحقة كي تصل إلى مصر ولا تتوقف عند اليمن، بل تلتف شمالاً كي تعود مرة أخرى نحو دمشق، دون أن يعني ذلك اكتمال حلقة التغيير التي بدأت بالخاصرة الرخوة في الجسد العربي، وهي تونس.
إن كنا نؤمن بأن المنطقة العربية بحاجة إلى التغيير، وبأن التغيير، في التاريخ، لا تنجز متطلباته في لحظة معينة، وإن كانت بدايته بحاجة إلى مثل تلك اللحظة، ومن ثم فهو عبارة عن موجات متلاحقة تمد الواحدة منها الأخرى بما تحتاجه من عوامل قوة، توفر لذلك التغيير القدرة على الفعل والاستمرارية، فعلينا اليوم أن نتوقع موجة جديدة من التغيير الذي أحدثته «الموجة التونسية»، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير لوصف شرارته التي أطلقها محمد البوعزيزي، عندما أشعل النار في جسده.
وإذا كانت تونس هي الخاصرة العربية الرخوة في المرحلة الأولى، فمن غير المستبعد أن تكون منطقة الخليج، وربما إحدى دولها هي الخاصرة الرخوة الثانية في موجات التغيير التي، ربما، تنتظرها. وإن كان من المبكر رسم الصورة النهائية الكاملة فمن غير الصعب تسليط الأضواء التي تنير طريق استكشاف العناصر الداخلية الساعية نحو ذلك التغيير، وتشخيص العوامل الخارجية، المتفاعلة معها، التي باتت واضحة، والتي يمكن حصر الأكثر بروزاً من بينها جميعاً في النقاط التالية:
1. بروز قوى اجتماعية جديدة، تنتمي نسبة عالية منها إلى الفئة العمرية الشبابية التي لم تعد تجد في بنى الأنظمة الخليجية القائمة الصيغة الأفضل التي تناسب ثقافاتها أولاً، وتلبي طموحاتها ثانياً، وليس أخيراً. والحديث عن «الأنظمة» لا يحصر التعبير في الدولة، وإنما يتسع كي يشمل المجتمع كوحدة متكاملة، بما يضم القوى والمؤسسات الفاعلة فيه كافة. هذه القوة تشكل العامل الداخلي الباحث عن تغيير.
2. تنامي حاجة الاحتكارات الغربية، لإحكام قبضتها على النفط الخليجي وفق صيغ جديدة لم تعد تؤمنها الاتفاقيات القائمة حالياً، رغم عدم عدالة الحالية. فالأزمة المالية الضاربة جذورها في الاقتصادات الغربية ترغم دولها على البحث عن أشكال جديدة من الهيمنة التي تساهم بأشكال أكثر عمقاً في مساعدة الغرب على انتشال نفسه من تلك الأزمة، وفي أقصر فترة زمنية ممكنة، وبأقل الخسائر، التي باتت تثقل كاهله. لم يعد ضمان تدفق النفط بالكميات المطلوبة، وبالأسعار التي يمكن أن يتحملها الغرب، هو المطلوب فقط، بل بات الأمر يتطلب مشاركة أعمق من ذلك، ولفترات زمنية أطول مما تحدده الاتفاقيات المعمول بها حالياً.
3. تزعزع بنيان المنظومة الخليجية المستقرة، الأمر الذي يقتضي إعادة رسم الخارطة السياسية في ضوء المتغيرات التي طرأت على المنطقة، وفي المقدمة منها، النهايات التي آل إليها العراق بعد إزاحة صدام، والقوى المتطرفة التي باتت تمسك بزمام السلطة في طهران، والتململات السياسية التي شهدتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي، والأخطر من بينها جميعاً تلك التي تشهدها الكويت، وهي الدولة، كما أشرنا أيضاً إلى تونس، الأكثر حداثة مقارنة بشقيقاتها الخليجيات، من المنظار السياسي للدولة الحديثة.