يقول أديبنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: «إني أكتب اليوم عن أمي، ولكن كل واحد منكم سيقرأ فيه الحديث عن أمه.. ألم يقل سبنسر: إن الجميع يبكون في المآتم ولكن كلاً يبكي على ميته؟ فمن قعد يقرأ هذه الحلقة وله أم فليتدارك ما بقي من أيامها لئلا يصبح يوماً فلا يجدها ولا يجد ما يعوضه عنها. وإن كانت عجوزاً أو كانت مريضة أو كانت مزعجة بكثرة طلباتها، فاذكر أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت يوماً أحوج إليها، وإن طالبتك أن تقدم لها من مالك فقد قدمت لك من نفسها ومن جسدها، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها يتغذى من دمها، ثم وضعتك كرهاً عنها، انتزعت منها انتزاع روحه».
كلما قرب ذكر رحيلها عن دنيانا، كلما حن قلمي لكتابة تلك المشاعر الرائعة التي تجيش في خاطري منذ تلك اللحظات المؤلمة التي أقعدتها على سرير المرض لا تأبه بمن حولها، ثم تلك اللحظات الأكثر ألماً عندما ودعت دنيانا إلى رب رحيم.
معذرة فإني أعيد العزف على أوتار محبتها، وأترنم حينا بعد حين بنغماتها الشجية التي لا زلت أتلذذ بصدى ألحانها في حضنها الدافىء، ودوحة حبها الكبيرة، وابتسامتها العامرة، وقلبها الطيب الحنون، الذي يحملك إلى دنيا أوسع، وحب للخير يصفق له كل جارحة من جوارح الكون، وينغمس في حبه كل طارق طرق أبواب حبها الأصيل، إنها أمي التي لم يكتحل عين الزمان بأجمل ولا أحلى من تقاسيم وجهها الرائعة، ونورها الذي لا زلت ألحظه.. كلما زرت قبرها الساكن.. هناك في مقبرة السكون.. كلهم رحلوا جميعاً.. وترك بعضهم أجمل الأثر.
أستميحكم عذراً أن أعيد على مسامعكم تلك المشاعر التي لا أمل منها، ولو سنحت لي فرصة التعبير لكتبت في حبها عدة فصول تشع ضياء ونوراً وأملاً وسعادة، إنها مدرسة واسعة من التربية والعطف والحنان تعلمت منها الكثير، وهي التي عاشت لا تفقه أبجديات القراءة، تعلمت منها أن أرفع علم الخير في كل القلوب، وأن أمسك يد كل من أحب في حنو وإشفاق، فألمه إلى صدري لأعلمه أن الحياة إنما هي «إحساس مرهف» ووتر حساس كقلب يخفق خفقات متسارعة، كل خفقة ذات مدلول يلقي بظلاله على حياتنا بمعان تنسج ثوب العيش الهانىء الرغيد.
رجعت بي الذاكرة لفقرات كتبتها في مقالتي عام 2010 أقول في بعضها: «نعم يا أمي، أتذكر صدرك الواسع يضمني، فأتبارك بقطرات الدمع الفرحة التي تنزل على خديك، آه وما أحلاها من لحظات عندما يختبىء الواحد منا بين أحضان والدته، فيترنم بحبها الخالص وبقلبها النقي وبدعواتها لرب السماء التي أحرص على سماعها والاستزادة منها كلما أقبلت على أمي الغالية رحمها الله. أتذكر تلك اللحظات السعيدة التي عشتها معك بين جنبات بيت الله الحرام وفي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، سلواي يا أمي تلك البشرى التي زفها لنا والدنا الغالي ـ أبقاه الله لنا ذخرا وسندا وأطال في عمره ـ عندما بشرنا بأن أمكم راضية عنكم، الله.. ما أحلاها من كلمة!! نسأل الله تعالى أن يكون هذا الرضى سبيلنا لبلوغ الفردوس الأعلى من الجنة، وسلواي يا أمي أن أياديك الخيرة يتكلم عنها القريب والبعيد، فمحبتك زرعت في كل قلب، والشاهد على ذلك كثرة المعزين والمتصلين..».
فيا من أكرمك المولى بأن يعيش معك حتى اللحظة أحد الوالدين أو كلاهما.. احرص على رضاهما، وتفنن بأنواع خدمتك لهما قبل أن تتحسر على لحظات لاذعات لم تستطع فيها أن تفعل الكثير.. وما أروع ما كتبه شيخنا الطنطاوي: (فمن كانت له أم أو كان له أب فقد فتح له باب الجنة، فمن الذي يمر بباب الجنة مفتوحاً فلا يدخلها؟). وقال: «إنك لو أحببتها بقلبك كله لم توفها إلا واحداً بالمئة مما أولتك هي من حبها. وإن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد، ما جمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك، وأنه كان يعود من عمله محطماً مكدوداً فتثب إلى حجره وتقول له: بابا، وتمد يديك الصغيرتين لتعانقه، فينسى بك التعب والنصب، ويرى المسرات كلها قد جمعت له والمتاعب كلها قد نأت عنه. واذكر أنه ما زاد من عمرك يوم حتى نقص من عمريهما مثله، ولا بلغت شبابك حتى ذهب شبابهما، ولا نلت هذه القوة حتى نالهما الضعف».
اللهم من كان منهما حي فبارك في عمره، وتحنن عليه، وارحم شيبته، وأمده بالصحة والمعافاة، ومن كان منهما ميت فارحمه برحماتك، واجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى، آمين.