قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة). وقال: (فإذا أضاعه لم يقف موضعه، بل ينزل إلى درجات من النقص، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي، إلى الجنة أو إلى النار..).
كم نحن في مسيس الحاجة لإدراك مراحل حياتنا قبل أن تنقضي بلا فائدة تذكر، والسير على طريق الخير لبلوغ الفردوس الأعلى، كم نحتاج لإدراك ما تبقى من حياتنا في عمل الخيرات، فحياتنا تطوى سريعاً، ولم نعد نستوعب انقضاء لحظاتها التي بتنا نتحسر على كل لحظة فيها مضت دون أن نضيء فيها ألفاظنا، بكل خير يشفع لنا عند الملك الديان، وما أحلى مراحل الإنجاز والتأثير والبصمة الحياتية التي حرصنا عليها في سنوات مضت، ونتلذذ اليوم بأن نقضيها كما هي وبروعة وإبداع أكثر من السابق، بما يحقق لنا الرضا الداخلي، ورضا المولى، ويجعلنا نعانق «جمال الخير» في مسيرنا إلى الله.
ولعلنا اليوم نكتب من جديد، وإن لم تكن جديدة على أسماعنا تلك الوقفات الجميلة التي وقفناها في مسير حياتنا، فضربنا فيها أروع الأمثال، وكابدنا فيها أصعب المواقف الحياتية التي أبرزتنا اليوم بصورة مغايرة عن السابق، وقفات مازلنا نستذكرها بإكبار وإجلال، لأن الوقت في حينه كان عنصراً حاسماً في حياتنا، كنا نستمتع فيه بلذة «الإنجاز» ومتعة «النشاط»، فكانت النفوس تتآلف فيها من أجل الله تعالى، تلتقي وتتزاور وتجتمع من أجل نشر الخير واحتضان القاصي والداني بنظرات الحب في الله، كانت بالفعل مساحات جميلة من الأوقات عشناها في رحاب «الأخوة في الله»، لم نغفل لحظة واحدة عن الاستمتاع بفضائلها وبجمال المحبة التي جمعتنا ومازالت تجمعنا، وبعد انقضاء كل تلك الصفحات وتعدد الانشغالات وتباعد الأماكن، تبقى المحبة هي المحبة التي تجمع المتحابين في الله تعالى، وما أجملها من لحظات تتجدد شوقاً إلى الأحباب عندما تلتقي بهم بعد كل تلك السنوات الطويلة التي تصرمت من أعمارنا سريعاً دون أن نلحظها، عندما تجمعك مواقف الحياة مجدداً معهم، تستذكر بكل شوق وتقدير واحترام أوقات المحبة والسعادة والخير التي كنت حريصاً على صياغة معالمها بجدارة في زمان يشتاق إلى معالم الخير وبصمات الصلاح والهداية، وما أروعها من أوقات عندما يسميها أحدهم «وكأننا لم نبتعد كل تلك السنوات».. إنها مراحل انطوت أسرع طي، ولكنها كانت مؤثرة في حياتنا نستذكر محاسنها وروعتها وعذوبة لحظاتها وكأننا نعيشها هذه اللحظة.
وبعد لذة «الأخوة في الله تعالى» تتعاضد معها لذة «الإنجاز» الجميلة التي تعطي الوقت الآني الذي تعيشه أهمية أكبر في حياتك، فتزلزل روحك بالإيمان الراسخ، وتسير نحو نتيجة جميلة سريعة الثمر، كنت من قبل تحركها بكل سهولة في كل لحظة من أوقات حياتك، فقد كانت أوقاتك مسخرة لطاعة الله، تبصم في كل ثوانيها ومنذ لحظات الفجر الأولى «بصمات الإنجاز المؤثرة»، وأحلاها تلك الجلسات الإيمانية مع أحبابك في الله التي كنت تستهل بها يومك لتنطلق بعدها إلى ترديد حروف الإنجاز والنجاح والتجديد.
مهما كتبنا عن تلك المراحل التي تطوى سريعاً، فلن نقوى بأن نعطيها حقها في دوامة الحياة المتسارعة التي لم نعد نقوى بأن نلحقها كما كنا في السابق، فمن بركة الوقت كان الإنجاز يتسارع في كل ميدان، حتى نخلد إلى النوم في نهاية المطاف وشريط الذكريات الجميلة يسبغ على نفوسنا راحة كبيرة، أما اليوم فإنجازنا يتمثل في نياتنا وفي صفاء سرائرنا، والعظة بما يدور حولنا، وبإشغال النفس بأطوار الخير، وبزيارة الصالحين والاستئناس بجمال حياتهم، والحرص على إشغال النفس بينابيع الخير وبصماتها التي لا بد أن تترك أثراً في النفوس، حتى إذا جاءت ساعة الرحيل، كتبت عنك هذه العبارة: «كان رحمه الله منجزاً في حياته، مستغلاً لأوقاته، صاحب قلب طيب، وكل هذه الآثار صنعتها يده البيضاء».
رزقنا الله وإياكم الخير، وبارك في مراحلكم نحو الجنة الغالية، ورزقنا وإياكم الفردوس الأعلى، وجمعنا على الخير في الدنيا والآخرة.. آمين.