الإنسان الحقيقي هو من يعطي ما يملك من خير ومحبة وعلم إلى الآخرين، دون أن ينتظر أي مردود على ما قام به من فعل لصالح من حوله من الناس، فهو يحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى فقط.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وهذا ينطبق على شيخنا الجليل محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، الذي جسد هذا المعنى خير تجسيد، بعد أن رحل من أرض الفناء إلى أرض الخلود، تاركاً خيراً لمن بعده على كل المستويات الحياتية والدينية والإنسانية.
وكما يقول الذين تابعوا شيئاً من حياة الشعراوي أن له الفضل الأكبر في إنشاء مستشفى سرطان الأطفال 57357، حيث كان دعمه هو النواة الأولى في بناء هذا الصرح الطبي. لنعود إلى كيفية حدوث هذا الأمر، وتحديداً في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، حيث كان معهد الأورام - كما يقول أحد الذين كتبوا عن هذا الموضوع - يعانى نقصاً شديداً في الإمكانات وزيادة كبيرة في معدلات وفيات الأطفال المرضى، وفى أحد الأيام شهد قسم الأطفال بالمعهد وفاة 13 طفلاً من إجمالي 16 طفلاً، فشعر طبيب القسم الشاب بالصدمة واليأس، وخرج من المعهد مصمماً على الاستقالة، ولكنه فكر فجأة في لقاء الشيخ الشعراوي، الذي كان معتاداً على الذهاب لأحد المطاعم المجاورة للمعهد، وأسرع الطبيب الشاب للمطعم، ليجد الشيخ الشعراوي مع ثلاثة من أصدقائه، هم عبد الله سلام وأحمد أبو شقرة وأحمد عبد الله طعيمة عضو مجلس قيادة الثورة، وجلس الطبيب بينهم يحكي لهم المأساة، وعلى الفور قرر كل منهم التبرع بخمسين جنيها شهرياً لإصلاح القسم وشراء المستلزمات.
من هنا كانت بداية الاهتمام بالأطفال مرضى السرطان وتطوير قسم الأطفال، وفي عام 1991، أصبح القسم يحتوي على 120 سريراً للأطفال، وبدأت نسب الشفاء ترتفع قليلاً بعد أن كانت لا تتجاوز 5%، واستمر التبرع الشهري من قبل الشيخ الشعراوي وأصدقائه، وانضم رجال الأعمال لمساندة المعهد، وزادت التبرعات، وظهر معها حلم إنشاء مستشفى خاص لسرطان الأطفال بأموال التبرعات، وكان تبرع الشيخ الشعراوي وأصدقائه هو النواة التي بدأت بهذا الخير الكبير.
ورغم مرور سنوات طويلة على وفاتهم جميعاً، مازالت تبرعاتهم مستمرة حتى يومنا هذا، ولايزال المستشفى يذكر هذا الرجل العظيم بكل الوفاء والعرفان، ويحرص مدير المستشفى على وضع صورة الشيخ الشعراوي داخل مكتبه، كرمز للوفاء والعرفان لهذا الرجل، الذي قدم صدقة جارية سيبقى نفعها إلى يوم الدين، وستبقى صورة هذا الرجل العظيم تشغل مكانة كبيرة في قلوبنا وقلوب المصريين جميعاً.
وإني لأذكر أحد المقولات المهمة التي تعبر عن سبب الفقر في العالم والتي قالها الإمام علي بن أبي طالب كرمه الله وجهه «ما رأيت قطعة ذهب إلا بجانبها بقعة دم»، في نفس الإطار الذي عبر فيه الشيخ الشعراوي عن هذا الموضوع، ولكن خصه ببلاد المسلمين، حيث قال: «إذا رأيت فقيراً في بلاد المسلمين، فاعلم أن هناك غنياً سرق ماله»، لأن الرزق مقسوم بين البشر، ولا ينقص منه شيئاً إلا أن يكون هنالك من قام بسحبه لصالحه، اللهم أبعدنا عن أخذ أرزاق غيرنا حتى ولو كانت صغيرة.