أ. منى العلوي


في فسحة المدرسة، أخرج أحمد من علبة طعامه جزراً مقطّعاً وخياراً مقشراً، وبجانبه زميله جابر، وهو الذي أخرج جزرة كاملة وخيارة غير مقشرة، وببراءة الطفولة قال جابر: «الخيارة والجزرة من مزرعتنا». أجاب أحمد: «أرى في الكاريكاتير أن الـرنب يخرج من الأرض جزراً فقط، هل تعتقد أنه يخرج الخيار أيضاً!! أجاب جابر مبتسماً: «الخيار لا ينمو تحت الأرض، لكن يتدلى من النبات». وأضاف: «لقد استغرقت بعض الوقت لاختيار الجزرة الكبيرة».

استغرب أحمد وسأله: «وكيف عرفت أنها كبيرة وهي تحت التراب؟» فأجاب جابر: «أشد الورق بلطف، فإذا كان سهل الاقتلاع، فذلك يعني أن الجزرة صغيرة فأتركها، أو أضغط بإصبعي على رأس الجزرة لأعرف إن كانت كبيرة أم صغيرة». بدت الدهشة على وجه أحمد من خبرة جابر.

حوارٌ بسيط بين طفلين يكشف عن الفارق الواضح في الفهم بين طفلٍ ينشأ متواصلاً مع الطبيعة وآخر بعيداً عنها. جابر، يملك معرفة متجذرة في الزراعة بتفاعله اليومي مع بيئته. أما أحمد، فمصدر تعلمه الكتب وما يشاهده في الرسوم المتحركة وغيرها. الأطفال الملتصقون بالطبيعة يشاهدون بأعينهم نمو النباتات ويفرّقون بشكل تلقائي بين المحاصيل التي تنمو تحت الأرض أو فوقها، ويدركون اختلاف المواسم الزراعية، ويلاحظون الفرق في شكل الثمار عند قطفها وشكلها بعد أن تمر بعمليات لطرحها في السوق، مثل المكسرات التي تُزال قشورها وغيرها، ويقدّرون الجهد المبذول والصبر المطلوب في كل تلك المراحل. ومنهم من نشأ في بيئة تُربّي الأغنام والدواجن فيشاهدون عن قرب طبائع الحيوانات الحقيقية في بيئتها لا كحيوان أليف في المنزل.

إن معرفتهم بتفاصيل بيئتهم تسهّل عليهم ليس فقط فهم العلوم، بل أيضاً إدراك وتوظيف المعاني المجازية المشتقة من البيئة مثل «من زرع حصد»، أو «أصلها ثابت في الأرض»، والتعابير المماثلة، والتي قد تبدو كرموز غامضة للأطفال الذين لا عهد لهم بالإنبات وتعب الحصاد!!.وفي دراسة قادتها الدكتورة شيريل تشارلز-المعروفة بمساهماتها في مجال التعليم- كشفت أن الأطفال الذين يقضون وقتاً أطول في التفاعل مع الطبيعة يظهرون مهارات أفضل في حل المشكلات، والتفكير الإبداعي.

في السيرة النبوية، نجد مثالاً رائعاً على ذلك، فقد قضى النبي (ص) سبع سنواته من طفولته في رعي الأغنام، أكسبته التجربة الصبر والحكمة في التعامل مع الحيوانات بحلم ورأفة، وفهم طبائع المخلوقات، وحُسن تعهّدها، والبحث عن مكان رعيها، جمع منْ تفرق عنها، ممارسات ساهمت في صقله لفهم الطبائع البشرية ولقيادة الأمة فيما بعد بالرحمة والقدرة على التعامل مع الناس باختلاف طبائعهم.

لا نبخل على أبنائنا بتوفير فرص احتكاكهم بالطبيعة فهي مدرسة فاعلة تمنحهم دروساً عميقة وتغرس في نفوسهم بعداً في التفكير يساعدهم على استيعاب الحياة وتحدياتها بشكل أفضل.