ترجل الفارس العنيد، ذلك البحريني القادم من اليسار البعيد، ترجل عن صهوة آلامه وأحزانه وترك حروبه ومواجهاته وخلد للسلام والراحة في عالم اللحود. رحل عبدالله خليفة في هدوء لا يليق بثورته وفي صفاء يتوافق مع أحلامه.
عبدالله خليفة كان واحداً من الشعب البحريني. تجده في سردياته يتمثل أمامك في صورة بحار فقد أشرعته، أو فلاح يقاوم الجفاف وحشرات الأرض، أحياناً يقبل عليك من الشاطئ الشرقي حاملاً معه الزعفران والرمان وأحلام التجارة وامتلاك الأرض، وأحياناً يزحف إليك مع الرمال الغربية حاملاً الأمثال والحكمة وسلال تمر صهرتها الشمس. (المكان) في أدب عبدالله خليفة كان صندوق الجينات ومعمل الخلايا، لم تكن المنامة، المهمشة سابقاً النفطية حالياً، كالمحرق العنيدة دائماً والمقاومة دوماً، ولم تكن القرية التي تختبئ الأسرار خلف نخيلها وتسر الأوجاع بين جداولها كالمدينة التي يطفو الصخب فوق حراكها وتتماوج الصراعات بين مكوناتها.
أسئلة المصدر والمصير كانت إحداثيات بحثه في إشكاليات الواقع. ولم تكن الإجابات جاهزة، بل... انتهت إلى كونها غير ممكنة: لماذا نخسر في كل مرة؟ لماذا نكبو بعد كل علو؟ كيف تتحول الأهداف والمبادئ؟ لماذا يتساقط الرفاق في فخاخ الإغواءات والإغراءات؟ لماذا نصير في كل مرحلة سلالم يصعد عليها الانتهازيون؟ هل الخطابات والشعارات أكبر مما تحتمله حركة الواقع؟ أين الخطأ؟ من أين ينشأ الخلل؟ تلك الأسئلة كانت تمثل البنية الفكرية لأعماله الفنية. وهي تتجسد في أبسط تمثلاتها الواقعية في تاريخ الحركة الوطنية البحرينية وفي حركة النضال العربي عامة. فبعد سنوات طويلة من النضال والتحرر واجه العرب فشل المشروع الوطني النخبوي، وإفلاس الأحزاب السياسية والحركات الفكرية، مما انعكس على المشاركة الشعبية في العمل السياسي والنضالي. وصعدت الدولة العربية القديمة بمكوناتها الفكرية الفئوية والرأسمالية وفرضت إديولوجيتها ومنهجها.
في أعماله الفكرية بحث عبدالله خليفة في بنية الثقافة (الشرقية) وعن الجذور التي أنبتت الواقع الحضاري الذي نعيشه اليوم. ثمة خلل في تداخل الأسطورة مع المقدس جعلنا نعتنق الخرافة في بعض عقيدتنا. الذين هاجوا وماجوا ضد مقالته الحديثة عن فلم (سفينة نوح) لم يدركوا، بما خلفته التربية العقدية المعقدة من تشوه في فهمهم، أنه كان يدافع عن التصور الإسلامي لشخصية نوح في مقابل التصور الأسطوري اليهودي الذي بُني عليه الفلم. ثمة عطب طال مجسات الاستقبال نشأ عليها الفرد العربي حتى غدا بعض أبنائه لا يميزون بين عدوهم ونصيرهم. وهذه بعض أسباب (العجز) الذي تعاني منه الأمة والذي أعْقم رحمها عن إنجاب النجباء الذين خلفهم التاريخ في صفحاته الصفراء.
انكسر اليسار أمام عينيه عندما سقط الاتحاد السوفييتي، وبعد أن هيمن القطب الرأسمالي الأوحد على العالم وتغولت فيه العولمة واتسع نفوذ الشركات العابرة للقارات. انكسر اليسار أمام عينيه فقط لكنه ظل صلباً في وجدانه، خلع كغيره من الرفاق العباءة الحمراء، وبقي وفياً لانتمائه الاشتراكي المقاوم للرأسمالية والانتهازية والطبقية بكافة تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وظل ثابتاً على مبادئه في المطالبة بالحرية والعدالة، واستمر انحيازه للمهمشين والفقراء نمط سلوك حافظ عليه حتى وفاته.
لم يكن عبدالله خليفة خصماً للسلطة باعتباره معارضاً سياسياً؛ كان خليفة مفكراً تنويرياً يختصم مع كل من يعادي القيم الإنسانية فيقتات على الخطب ويتاجر بالدين وبالحزب ويبيع التاريخ، ويشتري في كل مرحلة قلما جديداً. كان خليفة قارئاً مستشرفاً لما ستؤول إليه الأحداث في البحرين، لم يُفاجأ بالانقلاب الطائفي العميق الذي انجرف الواقع إليه، كان يرى أن خارطة الأماكن ستقود لامحالة إلى هذا الحال، تجلى ذلك في روايته الأخيرة (اغتصاب كوكب) التي رصد فيها حالة التجافي الكبير بين القرية والجوار المدني، وحالة التماثل الارتدادي بين القرية والضفة الشرقية للبحر!!.
في رحلته الأدبية الطويلة كان عبدالله خليفة أديب القضية، ولم يكن مهاجراً إلى المباني السريالية تحت وهج الحداثة، هو من الفصيل الذي يرى أن بيت القضية يسكنه الشعب وترتاده الجماهير، وبيت السريالية مهجور يسكنه الخائفون والهائمون على نصوصهم بين الكتمان والبوح. لم تخذله اللغة، ولم يعجزه الخيال والغرائبيات عن بناء نصوص متجددة متدفقة بالفكر والفن معاً.
عبدالله خليفة لم يسالم ولم يستسلم أو يصالح، ولم يستلم بشماله ثمن ما رفضته يمينه. صارع المرض والألم في آخر أيامه ليرحل في صمت الجبال وسلام السحاب. هناك في عالم الأموات سيجد السكينة وستنتهي المعارك والخلافات سيتحقق حلمه بأن يصبح الناس سواسية وأن يكون العدل هو أساس الحكم ومآل المصير وأن يحصد العامل ثمن عمله. وسيبقى في الساحة الأدبية فراغ ينتظر أن يثريه أديب ومفكر وتنويري مثل عبدالله علي خليفة البوفلاسة.