قالها العرب من قبل: «رب ضارة نافعة»، و«فيروس كورونا»، طامة ألمت بالعالم من مشرقه إلى مغربه، فقد أوقع هذا الوباء أضراراً كبيرة على المجتمعات بأنواعها سواء قرى أومدناً، دولاً كبيرة أو صغيرة، فلم يستثنِ هذا الوباء أحداً من أنيابه، فقد تجاوزت أضرار «كورونا» الأضرار الصحية إلى الأضرار الاجتماعية والنفسية، بل إنها أودت بحياة الآلاف من البشر في شتى بقاع الأرض، لعمري إنها لكارثة إنسانية، أضرت بالمجتمعات ناهيك عن إضرارها باقتصاد الدول، فقد انخفضت العملات، وانخفضت أسعار النفط، وتعثرت الأنشطة التجارية سواء الداخلية منها أو الخارجية، وبات العالم يعيش في غيمة سوداء لا يمتد بصره خارجها. إلا أن هذا الوصف للجانب المظلم من هذا الحدث لا يعني أن يغيبنا عن رؤية الجانب الإيجابي منه، واستثمارها، وكم من مصائب أورثت خيراً، وهنا سنناقش إحدى الفوائد التي اكتسبناها من «كورونا».

لقد اتخذ العالم العديد من التدابير للحد من انتشار الفيروس ولعل من أهم هذه التدابير هو تجنب التجمعات بين الناس، ومنها التجمعات في المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات، لذا فقد تعطلت عملية التعلم، وعُلقت الدراسة في المؤسسات التعليمية خوفاً على حياة الطلبة وأسرهم، إلا أن القائمين على التعليم بذلوا جهوداً لاستمرار عملية التعلم، ومن أبرز هذه الجهود هو التعليم عن بُعد.

وأقصد بالتعلم عن بعد هو توظيف التقنية الحديثة من إنترنت أو أجهزة حاسوب أو حتى قنوات «يوتيوب»، «أو قنوات تلفزيونية»، لتكون وسيلة يتعلم الطالب من خلالها المعارف، والمهارات المختلفة وهو خارج الفصل الدراسي، بل وهو خارج سور المدرسة، وبعيداً عن المعلم. إنها ليست طريقة حديثة فهي طريقة قد استخدمت منذ عشرات السنين في العديد من الدول المتقدمة، ولكن استخدامها في بعض الدول لاسيما العربية منها كان ولازال حذراً، وبالتالي لم تستثمر الإمكانيات التقنية استثماراً كاملاً في حل بعض مشكلات التعلم.

لا زلت أذكر أنماطاً في التعلم عن بُعد، أذكر أن القنوات التلفزيونية لبعض الدول الخليجية تقدم دروساً تعليمية في الرياضيات، والنحو، وغيرها وكان بعض المعلمين يكلفون طلبتهم بمشاهدة هذه الحصص بشكل منتظم، والتفاعل مع هذه الدروس بحل التمارين التي يطرحها المعلم الذي يقدم البرنامج التلفزيوني، أو كتابة الملاحظات أو تلخيص ما عرض للتحقق من الاستفادة من مشاهدة البرنامج.

وأذكر أننا كنا نطلع على تجارب بعض الجامعات في التعلم عن بُعد عندما كنا ندرس في كلية التربية، حيث تبث من خلال قنوات التلفزيون محاضرات وفق مواعيد معينة ليشاهدها الطالب، وبالتالي لا حاجة له لحضور المحاضرات بالجامعة فيسهل على بعض الطلبة استكمال دراستهم الجامعية خاصة الذين لا تسمح ظروفهم لحضور محاضرات الجامعة، ويُكتفى أن يذهب الطالب للجامعة لأداء الامتحانات، وكم كنا نتمنى تطبيق مثل هذه التجربة التي تتيح للطلبة استكمال دراستهم سواء على مستوى البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه.

وعلى الرغم من توفر تقنيات المعلومات والاتصال من أجهزة حواسيب، وإنترنت، وسبورات إلكترونية، التي توظف في عملية التعلم بشكل كبير كأحد طرق التدريس الفعالة لاسيما منذ تدشين مشروع جلالة الملك حمد لمدارس المستقبل في المدارس الحكومية عام 2005، وعلى الرغم من توفر خدمة الإنترنت في جميع المناطق في البحرين وانتشار المحلات التجارية التي توفر خدمة استخدام أجهزة الحواسيب، إلا أن هذه الإمكانيات لم توظف بشكل صحيح في التعلم عن بُعد في غالبية الدول العربية، سواء في المدارس الخاصة أو الحكومية.

ولقد كانت فترة تعليق الدراسة دافعاً قوياً لإدارات المدارس والمعلمين لبذل الجهود لتوظيف التقنية الحديثة ووسائل الاتصال لطرح مواد تعليمية مقروءة، أو مرئية ومسموعة، بل إن بعض الدول الخليجية بدأت في دراسة إمكانية طرح دروس تعليمية على قنوات «اليوتيوب»، وبدأنا نلاحظ العمل بجدية للبدء في تجربة التعليم عن بُعد، وأتوقع أن تلك التجربة ستنضج وسيتمكن المعلمون من النجاح في استكمال التجربة ليصبح التعلم عن بُعد أنموذجاً مستكمل الأركان يُطبق في مجال التعليم، سواء بعرض المادة التعليمية أو تنشيط طرق تفاعلية بين الطالب والمعلم، أو قياس مدى إتقان الطالب للكفايات التعليمية.

وإننا لنتمنى أن يواصل القائمون على التعليم تطوير تجربة التعلم عن بُعد حتى بعد زمن «كورونا» ليكون أنموذجاً معتمداً في عملية التعليم والتعلم، كما نتمنى أن تنضج هذه التجربة لتستثمر بشكل أكبر فلا يكتفى بأن يكون إحدى طرق التدريس مثل الاستعاضة بالتعلم عن بُعد عن تمديد اليوم الدراسي، وبذلك يسهم في خفض كلفة التعليم، أو لطرح الفرصة لاستكمال الدراسة الجامعية عن بُعد لاسيما العليا منها مثل الماجستير والدكتوراه. وهذا سيفتح المجال في إعادة النظر في تقييم شهادات خريجي التعلم عن بُعد وقبولها، ففي الماضي كان التحفظ على مثل هذه الشهادات له مبرراته ولكن مع تطور التكنولوجيا ودخول العالم للألفية الثالثة وتطور الذكاء الصناعي وسيطرة الإنترنت على مناحي الحياة أصبح هناك مبرر للاعتراف بمثل هذه الشهادات. فلعل «كورونا» جلبت خيراً فمن الخير أن نستثمر إمكانية متاحة بين أيدينا وهي التعلم عن بُعد وهنا ندعو المعلمين والتربويين للتركيز في تفعيل هذه التجربة والاستمرار فيها وتطويرها حتى بَعد «كورونا».. ودمتم أبناء قومي سالمين.