وكالات + إرم نيوز


كان المصري محمد عطا أحد العقول الرئيسية، والمهندس الذي قاد خلية القاعدة في هامبورغ وترأس المجموعة المكونة من 18 خاطفا، والقائد الذي تولى قيادة رحلة الخطوط الجوية الأمريكية من مطار بوسطن إلى لوس أنجلوس.

وانتهى الأمر بعطا بتحطيم الطائرة في البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في يوم الثلاثاء 11 سبتمبر، 2001 لتقع بذلك الكارثة التي غيرت العالم حتى يومنا هذا.

وظلت بثينة محمد شراقي، والدة عطا الذي ارتكب مجزرة انتهت بسلسلة من التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط وتأجيج التطرف العالمي، صامتة منذ عقود.


ولكنها اليوم وبعد أن بلغت من العمر 79 عاما وافقت على التحدث إلى موقع ”الإندبندنتي“ الإسباني.

ومن مقر إقامتها في أحد أحياء ضواحي القاهرة قالت والدة عطا: ”مرت 20 سنة، لم أرغب في التحدث لأنني بذلك أتذكر الأشياء التي حاولت أن أنساها“.

وبثينة هي الوحيدة التي خرقت ميثاق الأسرة الذي أبرمته مع ابنتيها، اليوم هن طبيبتان مشهورتان، ودفنت الأسرة أي ذكرى لذلك الشاب الذي وقفوا معه مبتسمين في أيام صيف طفولتهم.

قالت بثينة: ”لم يكن ابني قادرا على فعل الأشياء التي يقولون إنه فعلها“.

وفي الأشهر التي أعقبت الهجمات، مع قيام الأجهزة السرية لنصف العالم بفحص اتصالات خلية 11 سبتمبر، أصبح زوجها محمد متحدثا إعلاميا باسم العائلة.

وعقد مؤتمرات صحفية في القاهرة وألقى عشرات التصريحات التي اتهم فيها الموساد الإسرائيلي بالهجوم، قبل أن يتوفى عام 2008 وتطوي الأسرة صفحة جديدة.

وأضافت المرأة العجوز: ”لقد عاشت الأسرة بشكل جيد، لم نواجه أي مشاكل لأنهم يعرفون منذ اليوم الأول أنه لا علاقة لنا به“.

في انتظار العودة

الذاكرة التي تستحضر بها ابنها تبدو متوقفة عند وقت معين، غير قادرة على تحديث ما حدث بعد عام 1996، عندما أكمل الابن ”تطرفه“، حسب الصحيفة، في مسجد القدس في هامبورغ وافتتح رحلته عبر ”جحيم الإرهاب“.

وقالت بثينة: ”كان ابني شخصا متواضعا جدا أحبنا كثيرا، لقد كان مهندسا معماريا، عندما أرى (الآن) مشاريع البنية التحتية الجديدة في القاهرة، أعتقد أنه كان من الممكن أن يعمل بشكل مثالي هناك، رزقه الله إذا كان حيا“.

وأعطى سقوط كابول في أيدي طالبان في أغسطس الماضي، بثينة أمنيات جديدة وآمالا كاذبة، وهي تقول: ”عندما علمت بما كان يحدث في أفغانستان، صليت وتوسلت إلى الله أن يكون ابني واحدا منهم (طالبان) وأن يعود في النهاية إلى الوطن“.

وبعد عقدين من الزمان، تعيش الأم متشبثة بذكريات ابنها الوحيد الذي ولد في سبتمبر 1968 في كفر الشيخ، وهي محافظة في دلتا النيل، إلا أن محمد عطا نشأ في متاهة شوارع الجيزة النابضة بالحياة، على مرمى حجر من الأهرامات.

وأضافت الأم: ”أفتقده، أقضي وقتي في المعاناة من أجله، ليس لدي معلومات عنه، لم يؤكد لي أحد ما إذا كان حيا أم ميتا“.

وقبل بضع سنوات، عندما التقى بها صحفي ”الإندبندنتي“ لأول مرة، لم تتردد بثينة، وأكدت أن ابنها ربما كان على قيد الحياة، في معتقل غوانتانامو، وهو سجن شديد الحراسة يقع في الخليج الذي يحمل نفس الاسم، على الأراضي الأمريكية في جزيرة كوبا.

وهو المكان الذي تستخدمه الولايات المتحدة منذ عام 2002 كسجن للمعتقلين بتهمة الإرهاب، ومعظمهم اعتقلوا خلال غزو أفغانستان.

وأضافت بثينة: ”لا أعرف مكانه، لو كان على قيد الحياة، لكان قد أرسل لنا على الأقل بضع كلمات مكتوبة أو من خلال شخص، مات والده ولم نحصل على شيء، لقد مر 20 عاما حتى الآن دون اتصال أو وصول أي شيء إلينا“.

وتابعت: ”إما أنه مات أو أنه مسجون في مكان ما ولهذا لا يتصل بنا، آخر ما سمعته منه هو أنه كان يدرس في ألمانيا، أنا شخصيا أوصيته بالسفر إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الدكتوراه لأنه لم يكن مرتاحا مع أساتذته في ألمانيا، كان ابني يتمتع بشخصية هادئة للغاية“.

الانزلاق إلى الجحيم في ألمانيا

أظهر التحقيق الدولي اللاحق أن محمد عطا قد تلاشى في الأراضي الألمانية، لقد تخلى عن عاداته في القاهرة، حيث كان طالب هندسة في جامعة القاهرة يغازل الفتيات ويجرب الكحول، ليعتنق الدين في نسخته الأكثر تزمتا.

في هامبورغ، جاء ليتقاسم شقة مع رمزي بن الشيبة، وهو عضو آخر في القاعدة، بينما كان يكمل دراسة الدكتوراه في مدينة حلب القديمة، التي تحولت الآن إلى أنقاض بسبب الحرب الأهلية السورية.

كان محمد عطا في ذلك الوقت ”رجلا جادا وعقائديا وطالبا شديد التركيز“، وفقا للتحقيقات التي جمعتها أجهزة المخابرات الألمانية في وقت لاحق.

وأوضحت بثينة: ”ابني لم يقع في مشكلة، أصررت على أن ينتقل إلى الولايات المتحدة لأن شقيقاته كن أساتذة جامعيين ولم أكن أريده كرجل أن يكون أقل من ذلك، ابني لم يسافر إلى دول أخرى“.

كان محمد عطا شخصية محورية في الهجمات، لم يكن فقط هو المسؤول عن الخاطفين بل هو من اختار موعد الهجمات، في الأشهر التي سبقت 11 سبتمبر، مر عبر إسبانيا مرتين على الأقل للاتفاق مع بعض أطراف الهجمات.

وقالت الأم: ”آخر مكالمة معه حدثت قبل شهر من الهجمات، نتحدث مثل أي أم وابنها، لقد أحبني بجنون وأخبرني بكل شيء، لم يخبرني بأي من هذا، كان لا يزال شخصا هادئا جدا“.

ومع ذلك، فقد تغير شيء ما في أولوياته وفي أيديولوجيته، أثناء إقامته في هامبورغ، حيث وصل عام 1992، إذ بدأ عطا يتردد على المسجد ويتشارك في تجمعات المتطرفين مع ثلاثة زملاء آخرين، تحت تأثير رجل الدين محمد حيدر، الذي حارب السوفييت مع المجاهدين في أفغانستان في الثمانينيات.

كان الداعية (حيدر) هو من حثهم على ”الجهاد“، قام أربعة منهم بشكل متبادل بتغذية تحركهم نحو التطرف، كتب عطا أنه عاش في ”دار الأنصار“، حيث كانوا يعتقدون في البداية أنهم سيسافرون إلى الشيشان ولكن نصحوهم بالتوجه إلى أفغانستان.

سافروا أولا إلى باكستان ومن هناك أخذهم عناصر القاعدة إلى معسكر تدريب على الأراضي الأفغانية، حيث التقوا بن لادن.

كان زعيم القاعدة آنذاك مسرورا برؤيتهم، لقد أقاموا بشكل قانوني في أوروبا ويمكنهم الوصول إلى الولايات المتحدة بسهولة أكبر، وكانوا مثاليين لتفادي أي شكوك من المخابرات الأمريكية.

محمد عطا، الذي صقل لغته الإنجليزية في الجامعة الأمريكية في القاهرة وتعلم اللغة الألمانية في معهد جوته، كان يتألق أكثر من البقية.

وقد تولى فرع العمليات الخاصة للقاعدة تدريبهم بشكل كامل ومن قبل المقربين من بن لادن، بما في ذلك أبو حفص المصري.

لا تعاطف مع الضحايا

وصرحت بثينة: ”لا اعتقد أنه قادر على الانتحار، طلبت منا الحكومة المصرية الاتصال بها إذا عرفنا أي شيء، لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى تصنع الولايات المتحدة الفيلم بأنه مات، إنهم يقدمون بطاقاته كدليل لكني أعلم أنه لن يفعل شيئا كهذا“.

وأضافت: ”الحقيقة يمكن أن تبقى مخفية إلى الأبد، جرائم أخرى غير معروفة أيضا، إنهم خبراء في إخفاء الأدلة“.

لا تريد بثينة أيضا أن تعرف أي شيء عن الوصية التي وقعها ابنها قبل خمس سنوات من 11 سبتمبر عندما كان قد قرر بالفعل التضحية بحياته من أجل ”الجهاد“.

وجاء في الوصية: ”لا يبكي أحد من أجلي ولا يصرخ، ولا يمزق ملابسه أو يغير وجهه، إنها إيماءات غبية (...) هناك تقليد إحياء ذكرى الموت بعد أربعين يوما من الموت أو في كل ذكرى، لا أريد ذلك، لا يتماشى مع الشعائر الإسلامية“.

وعندما سئلت عن الضحايا الذين قتلوا في الهجمات ( 2977 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح) تجنبت بثينة أي تعبير عن التعاطف تجاههم، قائلة: ”أي ضحايا؟، نحن الضحايا، مُنعت بناتي من السفر، لمن سأعتذر إذا ماتوا جميعا؟“.

وقالت بثينة: ”كأم، أعتقد أن ابني ما زال على قيد الحياة لأنني لا أقبل موته لكن بناتي قلن إنه قُتل ومات، يقولون لي إنني أتخيل وأحلم بأشياء“.

البنتان اللتان تتحدث عنهما بثنية، عزة ومنى، على عكس ما تشير إليه، فإن حساباتهما على ”فيسبوك“ تدل على رحلات إلى أوروبا، على سبيل المثال، إلى حديقة وارنر في مدريد أو كامب نو أو زياراتهم إلى ألمانيا.

عزة هي أستاذة معروفة في قسم علم الحيوان بجامعة القاهرة، وتركز بحثها على علم المناعة، ومنى، أخصائية في الطب الباطني، وتعمل منذ فبراير الماضي في مستشفى السلام الدولي، أحد أكثر المستشفيات شهرة في العاصمة المصرية، ولا أحد منهن يريد التحدث.

وقالت الأم مواصلة شكوكها حول اليوم الذي هز العالم: ”مبارك (الرئيس الأسبق) كان أول من قال إنه كطيار لا يمكنه الوصول إلى مكان مثل البرجين التوأمين، لم يكن ابني طيارا ولم يتعلم الطيران أبدا، كان يدرس الهندسة، هل يمكن لأي شخص أن يصدق أنه تعلم قيادة الطائرات في شهر دراسي؟“.

وخلال هذه السنوات، الخبر الوحيد التي تزعم بثينة أنها تلقته من معارفها هو الزواج المزعوم لحمزة بن لادن، الابن الخامس عشر لمؤسس القاعدة، من ابنة لم تكن معروفة حتى الآن لمحمد عطا.

وأضافت: ”لا أعتقد أن هذا كان صحيحا، لأنه لو أنجب ابنة، لكنت عرفت ذلك، في هذه السنوات العشرين لم نغير أرقام الهواتف على أمل أن يتصل بنا، إنه يعلم جيدا كم نحبه وسأكون دوما راضية عن القدر الذي يهب الله إياه“.

وتحافظ بثينة على صورة ذلك النسل الانطوائي الذي ينفذ دائما أوامر الأب الصارم بعناية، الذي مات وهو يقاوم قبول ما هو بديهي ولم يسمح للأسرة بالتحدث في الماضي عن محمد عطا.

وتختم بثينة حديثها قائلة: ”أخواته تقبلوا فكرة موته لكن شيئا مني يرفض ذلك، أريد أن أراه قبل أن أموت، أبلغ من العمر 79 عاما وما زلت أؤمن بأنه سيتصل بي يوما ما، وما زلت أنتظر معجزة سماع صوته مرة أخرى“.