الحرة

في الوقت الذي تشهد فيه محافظة إدلب السورية تصعيدا بالقصف من جانب قوات الأسد وروسيا يتجه قائد "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة الإرهابية سابقا)، أبو محمد الجولاني إلى توسيع دائرة سيطرته الداخلية، متجها بذلك إلى تصفيباقي الجماعات "المتشددة" والتي كانت على وفاق كبير معه، منذ السيطرة الأولى على المنطقة في مارس عام 2015.

من بين هذه الجماعات ما يسمى بتنظيم "جنود الشام"، الذي تعود غالبية أصول مقاتليه إلى الشيشان، ويتزعمه، مراد مارغوشفيلي، المعروف داخل الأوساط المتشددة باسم "مسلم أبو وليد الشيشاني"، وينحدر من القبائل الشيشانية المقيمة في جورجيا.

التنظيم المذكور الذي أعلن عن تشكيله في عام 2012 ينشط بشكل أساسي على الجبهات العسكرية في مناطق ريف اللاذقية الشمالي وريف محافظة إدلب الغربي.

وكان قد شارك في السنوات الماضية في عدة معارك "كبيرة" إلى جانب "تحرير الشام"، كالمعارك الأولى التي شهدتها مناطق اللاذقية، وصولا إلى معارك "سجن حلب المركزي" في مدينة حلب، ومؤخرا إدلب.

وبالصورة العامة قد يكون توجه "الجولاني" المصنف على قوائم الإرهاب الدولية لتصفية "جنود الشام" أمرا لافتا، إلا أن ذلك يأخذ مسارات باتت "شبه اعتيادية" على المستوى الداخلي، خاصة أن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها في إدلب، بل سبقتها عدة خطوات تمكنت من خلالها "تحرير الشام" القضاء على عدة فصائل سواء "معتدلة" أو "متشددة" تتشاطر معها ذات العقيدة و"المنهج".

ومنذ عامين مضيا كان لافتا التغيرات التي طرأت على سياسة "هيئة تحرير الشام" الداخلية والخارجية على الخصوص، في محاولة من قائدها "الجولاني" الظهور بمظهر "المعتدل" أمام المجتمع الدولي، بعد سنوات من الممارسات "الإرهابية"، وهو الأمر الذي أشار إليه خبراء شؤون المتشددين في تصريحات لموقع "الحرة".



"طلب للمغادرة"

وبشكل مفاجئ ومن دون سابق إنذار أرسلت "هيئة تحرير الشام" قبل أيام بلاغا إلى تنظيم "جنود الشام" الشيشاني، طلبت فيه من الأخير بضرورة التفكك بشكل كامل، ومغادرة محافظة إدلب.

ما سبق أكدته "تحرير الشام" على لسان مسؤولي العلاقات العامة فيها خلال حديثهم لوسائل إعلام سورية، كما أكده قائد "جنود الشام" الملقب بـ"مسلم الشيشاني"، مشيرا في بيان تناقلته حسابات "متشددة" عبر تطبيق "تلغرام" إلى تلقيه البيان من قبل مسؤول "جهاز الأمن العام" في إدلب، التابع لـ"تحرير الشام".

وقال "الشيشاني" في بيانه الذي اطلع عليه موقع "الحرة": "قال لي المسؤول الأمني هذا قرار نهائي للهيئة، ولا يسمح لك بالاستئناف عليه".

وتحدث "الشيشاني" في بيانه أنه حاول الاستفسار عن أسباب القرار المتخذ من "تحرير الشام"، إلا أنه لم يتلق أي توضيحات من قبل مسؤول "جهاز الأمن العام". وتابع: "المسؤول أخبرني أن السلطة اليوم بيد تحرير الشام، ولن نترك أحدا لا يطيعنا أو ليس تحت سلطاننا".

ويصنف التنظيم المذكور ضمن ما يعرف بـ"إمارة القوقاز الإسلاميّة"، وهي مجموعات تقول إنها "مستقلة تنظيميا" بأعمالها العسكرية في شمال غرب سوريا، بعد انفكاكها عن تنظيم "القاعدة" قبل سنوات.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد صنفت "مسلم الشيشاني" على أنه قائد جماعة إرهابية مسلحة في سوريا منذ يوليو 2014، واتهمته ببناء قاعدة للمقاتلين الأجانب في سوريا.

كما تصنف الولايات المتحدة الأميركية "هيئة تحرير الشام" وقائدها "الجولاني" على قوائم الإرهاب، وكانت قد عرضت مكافأة مالية مؤخرا للجهة التي تقدم أي معلومات عن الأخير أو أماكن تواجده في الشمال السوري.



ما الذي يريده "الجولاني"؟

وحتى الآن تغيب تفاصيل العلاقة المقبلة بين "تحرير الشام" وباقي الجماعات المتشددة في شمال غرب البلاد، وعما إذا سيتجه قائد الأولى بالفعل إلى تصفية الجميع من أجل الانفراد بالساحة القتالية والداخلية في إدلب السورية.

وتأتي التطورات المذكورة سابقا بعد أشهر من توجه "تحرير الشام" إلى فتح مرحلة صراع مع تنظيم "حراس الدين" المرتبط بتنظيم القاعدة، حيث أقدمت على اعتقال عدد من قادته، وسيطرت على مقاره العسكرية في ريفي حلب وإدلب، وصولا إلى تحجيمه بالكامل ضمن مجاميع صغيرة.

الباحث الأردني في شؤون الجماعات المتشددة، حسن أبو هنية يرى خطوة "تحرير الشام" حيال التنظيم الشيشاني بأنها ترتبط بالسياسة التي بدأت الأولى باتباعها منذ قرابة عامين.

ويقول أبو هنية في تصريحات لموقع "الحرة": "شاهدنا على مدار العامين الماضيين التحولات التي طرأت على تحرير الشام والجولاني شخصيا. بالتالي ما نراه اليوم يندرج في إطار هذا التحول".

ويضيف أبوهنية أن "تحرير الشام" تحاول تقديم نفسها كـ"حركة محلية لا صلة لها بالأجانب"، وبالتالي تحاول التخلص من هذا الملف بطريقة أو بأخرى.

ولتحقيق ما سبق تسعى "تحرير الشام" إلى "مخاطبة الأوروبيين والأميركيين"، لكن "حالة الشيشاني" مختلفة بحسب أبو هنية.

ويشير: "حيث يريد الجولاني أن يسترضي الروس من خلالهم، في سياق البراغماتية التي لم يعد لها أي حدود. الأهم لديه الآن هو أن يحافظ على تنظيمه، وأن يقدم نفسه كتيار سياسي سوري محلي، وأنه قابل للتفاوض مع الجميع".

ولا توجد أرقام دقيقة للمقاتلين الشيشان في شمال غرب سوريا، والذين لا يقتصر عملهم ضمن "جنود الشام" فقط، بل على تنظيمات عسكرية أخرى، تنشط بمعظمها في مناطق الساحل السوري.

ويتابع أبو هنية: "يبدو أن الجولاني قد نفذ صبره خاصة مع الإصرار الأميركي الأخير على تصنيفه إرهابيا، ليتجه حاليا إلى مغازلة الروس الذين دائما لهم تحفظات واعتراضات على المكونات الأجنبية، وتحديدا من الجوار الروسي القريب من شمال القوقاز".



"حب السيطرة"

في غضون ذلك كان البيت الداخلي لـ"تحرير الشام" قد شهد في الأشهر الماضية عدة تحولات، صبت بمجملها في إطار نزع صفة "الإرهاب"، إذ اتجهت لمقاتلة التشكيلات المحسوبة على تنظيم "القاعدة" من جهة، وفي المقابل غيرت من خطابها "المتشدد" ليكون أكثر قربا من "الاعتدال".

وبموازاة ما سبق استكملت "تحرير الشام" خطوات هيمنتها العسكرية والإدارية على محافظة إدلب.

وبينما سعت إلى تحجيم نطاق سيطرة "الفصائل المعتدلة"، استحوذت على قطاعات اقتصادية في إدلب السورية، من خلال الحكومة التي أنشأتها قبل سنوات تحت اسم "حكومة الإنقاذ السورية".

ويرى نشطاء سوريون في إدلب أن خطوات "تحرير الشام" وخاصة قائدها "الجولاني" تصب في سياق "حب السيطرة" على المنطقة كاملة، وهو ما دفعه مؤخرا لمحاربة قياديين داخل التشكيل الذي يقوده، ومن ثم تصفية تشكيلات "متشددة" يعتبرها منافسة لها في الساحة العسكرية والمحلية.

من جانبه يعتقد الباحث السوري، عباس شريفة أن "سعي الجولاني لتفكيك تنظيم جنود الشام" هي "عملية متتالية" كانت "تحرير الشام" قد سارت بها في السنوات الماضية، بدءا من تنظيم "أنصار الدين"، ومرورا بـ"أنصار الإسلام". وهي تنظيمات تتبع لتنظيم "القاعدة".

ويرى شريفة في حديث لموقع "الحرة" أن "تحرير الشام" تريد أن تسيطر تماما على هذه التنظيمات، وتحاول تخييرها ما بين "التفكيك أو الانضمام".

ويستبعد الباحث السوري أن يكون توجه "الجولاني" لتفكيك "جنود الشام" مرتبطا بـ"الذرائع الروسية" التي لم تتوقف عن ترديد وجود "عناصر إرهابية" لتبرير أعمالها العسكرية في محافظة إدلب.

لكن وبنفس الأمر يتابع شريفة: "لا ينفي ما سبق استثمار تحرير الشام هذه الحملات في إظهار نفسها على أنها قادرة على ضبط الجماعات المتشددة، وقادرة على تفكيكها أمام المجتمع الدولي".



"مساحة واسعة"

ما سبق لا يمكن فصله عن تحركات أخرى كانت "هيئة تحرير الشام" قد اتبعتها في الأشهر الماضية، في سياق توسيع إحكام سيطرتها على محافطة إدلب السورية، وكان آخرها الإعلان عن تشكيل "شعب تجنيد" للشبان والمقاتلين المنتشرين في المنطقة، وذلك في التاسع من مايو الماضي.

وهذه هي المرة الأولى التي يتجه فيها تشكيل عسكري في الشمال السوري إلى تأسيس "شعب التجنيد"، والتي لم تتضح الأهداف منها بشمل ملموس حتى الآن.

ويشير الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، عرابي عرابي، إلى "مساحة واسعة" كانت قد تكونت في السنوات الماضية ما بين "تحرير الشام" وباقي التنظيمات "المتشددة" في إدلب.

ويقول عرابي في تصريحات لموقع "الحرة" إن ما سبق أسس له انفصال "تحرير الشام" عن تنظيم "القاعدة"، وما تبع ذلك من ظهور "طبقة من العلاقات المحلية، سواء الأمنيين أو الشرعيين أو القادة العسكريين. كل هذه الأمور جعلت التفاهم مع المقاتلين المهاجرين أمرا صعبا".

وفي ظل المواقف الدولية الثابتة، يتابع الباحث السوري: "دفع ذلك تحرير الشام بشكل متسارع نحو الابتعاد عن هذه التنظيمات الأجنبية، تارة من خلال إقصائها وتارة من ضمها ضمن صفوفها حتى لا تكون التصفية دموية".

ويشير عرابي إلى نقطة "ذات أهمية"، مفادها أن توجه "تحرير الشام" إلى تصفية باقي التنظيمات المتشددة في شمال غرب البلاد كان قد سبقه قطع الموارد المالية عنها، وهو ما حصل مؤخرا لتنظيم "حراس الدين" التابع لتنظيم "القاعدة".

وفي حالة التنظيم الشيشاني (جنود الشام) يرى عرابي أن أسباب وضعه ضمن "دائرة الاستهداف" ترتبط بكونه ينشط في منطقة وعرة، ولديه خبرة طويلة في القتال ضمن الجبال، عدا عن ميوله في "الاستقلال الذاتي".