أيمن شكل


حصر أكثر من 85 ألف مدفن ذهبت مع التوسع العمراني
كثير من الآثار الدلمونية في المتحف البريطاني
شواهد أثرية تؤكد أن مجتمع دلمون ساده الحب والتسامح والسلام
الدلمونيون القدامى آمنوا بحياة أخرى بعد الموت في عالم آخر
أكد أستاذ الآثار السابق في جامعة البحرين د. عبدالعزيز صويلح أن كل الآثار المكتشفة في البحرين هي لأبناء الجزيرة الذين عاشوا عليها منذ آلاف السنين، ولم يكونوا أموات تم جلبهم من مناطق أخرى لكي يدفنوا في الجزيرة كما يزعم البعض، مشيراً إلى ما تم حصره في ثمانينات القرن الماضي من مدافن وتلال قد تجاوز 85 ألف مدفن، ومازالت هناك آلاف المدافن التي ذهبت مع التوسع العمراني.

ودعا د. صويلح للمحافظة على الآثار بكل الطرق سواء الاستعانة بالبعثات وحمايتها بكل الوسائل وابتعاث الطلبة لدراسة الآثار وتأسيس لقاعدة من المتخصصين لهذا العلم الذي تفتقده كل دول مجلس التعاون ومنها البحرين.

وقال د. صويلح، في محاضرة بمجلس آل سنان، إن قضية الموت شغلت فكر الإنسان منذ القدم وصولاً إلى الوقت الحاضر، وارتبطت هذه القضية في الوقت نفسه باعتقاد الإنسان بوجود عالم آخر سوف يتوجه إليه الميت، كما أن هذا العالم وكيفية الوصول إليه أوجد لديه مشكلة تتعلق بكيفية التصرف في جثة الميت والمحافظة عليها لضمان وصول صاحبها إلى ذلك العالم، خاصة إذ كان الميت أحد أفراد أسرته أو أقربائه الذين يكن لهم الحب والاحترام.

وأوضح أن ذلك كان منطلق الفكرة الأساسية في إنشاء وتصميم تلال المدافن في البحرين، والتي تعكس في مجملها الدافع الأساس لبناء مثل تلك المنشآت والمتمثل في تطور الفكر الديني لدى أصحابها من الدلمونيين في نظرتهم للموت، وتُظهر في الوقت نفسه ما كانوا يكنونه من حب واحترام وتقدير للميت، بحفظ جسده من العبث لضمان الحياة الأخرى له والتي لا يعرفون شيئاً عن كيفيتها إلا أنهم اعتقدوا بوجودها.


وقدر د. صويلح عدد المقابر التي تم اكتشافها بحوالي85,000 تل، وقد أمكن وضع تصنيف لأشكالها والفترات الزمنية التي تعود إليها، اعتماداً على عدد من الاختلافات تمثلت في المظهر الخارجي للتل وكيفية إنشائه بمختلف عناصره المعمارية، إضافة إلى اختلاف مكونات الجهاز الجنائزي الذي وضع مع الأموات، وجاء التصنيف على النحو التالي:

تلال المدافن الحجرية

وبين صويلح الشكل الأول من التلال وهي المدافن الحجرية حيث تميز هذا الشكل من تلال المدافن بسطح خارجي خشن بسبب بروز الحجارة المستخدمة في إنشاء عناصر التل المعمارية، وعثر في مدافنها ضمن مواد الجهاز الجنائزي على جرار فخارية تعود لفترة أم النار المعروفة في الخليج العربي والتي تؤرخ بالفترة ما بين (2500 – 2300 ق.م).

أما الشكل الثاني فهي تلال المدافن الترابية الحجرية واستخدمت فيها خلطة مكونة من الحجارة والتربة الرملية والجيرية لتغطية العناصر المعمارية لتلال، وقال إن التنقيب أوضح بأن الجهاز الجنائزي الذي وضع مع الأموات مشابه تماماً لما عثر عليه في تلال المدافن الحجرية، ويشير الاختلاف في عمارتهما إلى وجود أكثر من طريقة لبناء تلال المدافن خلال النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد.

ويظهر الشكل الثالث تلال المدافن الترابية المسطحة والتي امتازت بضخامة الحجم، ووجود تسطيح عند قمة التل، يقع مباشرة فوق غطاء المدفن، وقال: على ضوء مكونات الجهاز الجنائزي المكتشف في المدافن تم تأريخ هذا الشكل من تلال المدافن بالفترة ما بين 2200 - 2000 ق.م.

أما الشكل الرابع فهو تلال المدافن الترابية المقببة حيث لفت د. صويلح إلى أن هذا النوع من تلال المدافن يشكل الغالبية العظمى من تلال مدافن البحرين، وينتشر ما تبقى منها بسبب التوسع العمراني في مدينة حمد وقريتي عالي وسار، وتتميز بالمظهر المقبب تقريباً وبقرب بعضها من بعض، وقال إن دراسة مختلف مواد الجهاز الجنائزي الذي عثر عليه في مدافنها يوضح بأنها تعود للفترة الزمنية المحصورة ما بين 1800 – 2000 ق.م.

وتميز الشكل الخامس من تلال المدافن الكبيرة بالضخامة والارتفاع الكبير، حيث يحتوي كل تل على غرفتي دفن موجودتين فوق بعضهما البعض، ويحيط بهما جدار دائري ضخم، وقد بنيت غرفتي الدفن والجدار الدائري بكتل ضخمة من الحجارة الجيرية الصخرية، ويتصل بزوايا جدران المدافن ما بين فتحة إلى أربع فتحات جانبية استخدمت لوضع مواد الجهاز الجنائزي، بينما احتوت بعض المدافن على مداخل علوية على شكل برج لإنزال الميت منها.

آثار دلمونية بالمتحف البريطاني

وكشف أستاذ الآثار د.صويلح أن معظم مواد الجهاز الجنائزي الذي عثر عليه في هذه التلال موجودة حالياً في المتحف البريطاني، مرجعاً السبب في ذلك أن التنقيب والاكتشافات قد حدثت بواسطة الرحالة الأجانب وضباط الجيش البريطاني، قبل صدور قانون الآثار البحريني. وقال د.صويلح إنها اشتملت على أدوات نحاسية من بينها خناجر وسكاكين وجرار فخارية مشابهة تماماً لما عثر عليه في تلال المدافن الترابية المقببة، والتي أمكن تأريخها بالفترة الزمنية الممتدة ما بين 1800 - 2000 ق.م. بالإضافة إلى مواد مختلفة مصنوعة من العاج من بينها تمثال عاجي معروض نسخة منه في قاعة دلمون بالمتحف الوطني.

وتطرق صويلح إلى أشكال تلال المدافن الضخمة والمسطحة والتي تتميز بكبر الحجم والامتداد على سطح أرضية الموقع، حيث يحوي التل بداخله جدار دائري مبني بالحجارة الكلسية تتوزع بداخله مجموعة من القبور بنيت بشكل هندسي منتظم، وقد تم التعرف على ثلاثة أشكال معمارية من هذه التلال، وقد أوضحت دراسة مواد الجهاز الجنائزي التي عثر عليها بأنها تعود إلى الفترة الزمنية الممتدة من 1700 - 500 ق.م.

وأشار إلى أن تلال مدافن الحجر قد تميزت بالضخامة والارتفاع المتوسط، وقد كشف التنقيب بين مكوناته التي تتكون من الرمل والحجارة الصغيرة على مجموعة من القبور مبنية بالحجارة الكلسية الصغيرة والتي ربطت فيما بينها بمادة مكونة من خليط يتكون من الجص وقليل من الرماد، وأسفل هذه المجموعة من القبور تم العثور على مجموعة أخرى من القبور محفورة في أرضية الموقع الصخرية بأعماق تراوحت ما بين 180 - 75 سم وعرضها ما بين 100 - 60 سم.

واشتمل الجهاز الجنائزي الذي عثر عليه في قبور موقع الحجر المحفورة في أرضية الموقع الصخرية على جرار فخارية وأختام دلمونية، تعود للفترة الدلمونية المبكرة والتي تؤرخ حسب مكتشفاتها بالفترة ما بين 2300 - 2000 ق.م، وقد أعيد استخدم بعض قبور موقع الحجر التي تعود للفترة الدلمونية المبكرة، بعد إجراء التوسعة على حجمها، كما عمل مداخل وبوابات لبعضها متصلة بعتبات تؤدي لداخل القبر، واحتوت على جهاز جنائزي يؤرخ بالفترة ما بين (1400 - 1200 ق.م)، وهي الفترة التي خضعت فيها السلطة السياسة الدلمونية في البحرين للكاشيين.

وقال إن بعض قبور موقع الحجر الدلمونية عثر فيها على مواد جهاز جنائزي تعود للفترة التي خضعت فيها البحرين للآشوريين والبابليين الجدد وهي التي أرخت بالفترة الزمنية ما بين 911 - 539 ق.م.

ونوه صويلح بالشكل الثامن من المدافن وهي المترابطة والتي عثر عليها ضمن حدود مدينة سار الدلمونية، ويوحي تناسق بناء قبورها ونمطها المعماري بأنه قد تم التخطيط لها مسبقًا من قبل مجموعة متخصصة في بناء المقابر، تولت عملية التخطيط والإشراف على تنفيذ البناء. وقال: اعتماداً على التشابه بين مواد الجهاز الجنائزي الذي اكتشف في المدافن ومكتشفات بيوت المدينة وخصوصاً الأواني الفخارية والأختام الدلمونية، نرى بأنها تعود لسكان المدينة الدلمونية، كما أمكن تحديد الفترة الزمنية التي تعود لها وهي ما بين سنة (2200 - 1750 ق.م).

الميت كأنه في بطن أمه

ولفت أستاذ الآثار إلى أن الميت كان يوضع في المدفن بوضعية القرفصاء، وقال إن ثباتهم على هذه الوضعية يرحج اعتقادهم بأنه لكي يبعث من جديد، لابد له من أن يوضع في المدفن بالوضعية المشابهة لها وهو في بطن أمه، ليولد من جديد في ذلك العالم بنفس الصورة والوضعية، وأضاف: كذلك لو تأملنا أشكال تلال المدافن لوجدناها تميل في شكلها العام إلى الشكل المقبب الذي يوحي بشكل بطن الأم وهي حامل.

مجتمع البحرين منذ القدم تسوده روح التسامح والتعايش

وأشار صويلح إلى أن أعمال التنقيب في تلال المدافن أوضحت بأن مجتمع البحرين منذ القدم تسوده روح التسامح والمحبة والاحترام وحب الخير للآخر، وظهر ذلك من خلال الاهتمام الكبير الذي بذلوه لإعداد الجنازة ودفنها بطريقة تحافظ عليها من العبث لضمان وصول ذلك الميت إلى العالم الآخر(عالم ما بعد الموت)، والحرص الشديد على الالتزام بدفن الميت وإقامة الطقوس الدينية اللازمة أثناء وبعد دفنه.

ومن بين الاكتشافات التي عثر عليها كانت لمدافن خالية من أية بقايا لعظام الميت، وبعضها احتوى فقط على مواد الجهاز الجنائزي.

وأشار د. صويلح إلى أن هذه المجموعة من المدافن تأتي من اعتقاد لدى الدلمونيين بحياة أخرى بعد الموت في عالم آخر، وهذا الاعتقاد وهذه العلاقة الإنسانية الحميمة فيما بينهم أوصلتهم إلى الرغبة المشتركة في السعي لضمان أن يتمتع كل فرد من أفراد المجتمع الدلموني بمملكة البحرين بالحياة في ذلك العالم، دون النظر إلى معتقده أو مسيرته في الحياة عندما كان بينهم قبل وفاته.

وقال: على هذا الأساس فإننا نرى بأن المدافن الخالية، عبارة عن مدافن رمزية أنشئت لأشخاص تعرضوا للوفاة بعيدين عن أسرهم، ودفنت أجسادهم ربما في مكان آخر، كوفاتهم خلال رحلة من الرحلات التجارية أو رحلات الغوص أو الصيد أو أنهم مفقودين ولم يعثر عليهم أو على جثثهم أو لوجودهم في عمل خارج حدود مملكة البحرين ولم يعودوا لأهلهم.

لذلك كان يقوم أهاليهم بإيجاد مثوى لهم عبارة عن تل يرمز إلى وجود أرواحهم فيها ضمن حدود أرض دلمون المقدسة أرض الخلود (الجنة)، وفي هذه الحالة يحوي المدفن مواد الجهاز الجنائزي فقط دون وجود بقايا لعظام الميت، وهذا العمل يدل على أن مجتمع دلمون بمملكة البحرين كان يسوده الحب والتسامح والسلام والاحترام وحب الخير للجميع.