برزت في السنوات العشر الماضية، منافسة كبيرة بين وسائل الإعلام التقليدية والوسائط الرقمية، كانت الغلبة فيها للأخيرة، حيث انتصرت الوسيلة على الرسالة وتقدمت الصورة على المحتوى وانتشرت ثقافة الشاشات وتراجعت سيطرة المطابع والمحطات على المشهد الإعلامي، فقد تمكنت هذه الوسائط الجديدة من تغيير المشهد الإعلامي عبر تغيير العادات الاتصالية لدي الجمهور، عندئذ أضحى مليارات من البشر يعتمدون في إشباع احتياجاتهم الإعلامية والمعرفية والترفيهية على هذه المنصات الإعلامية الدولية محدودة العدد شديدة التأثير، وعادت فكرتا الاحتكار والتركيز من جديد ليناقشهما الباحثون، تلك الأفكار التي قاومها المصلحون وفضحوا آثارها السلبية خاصة أنصار المدرسة النقدية في العالم المتقدم قبل العالم النامي.

تعرضت غالبية وسائل الإعلام التقليدية في المقابل للتراجع، بعد أن انخفضت العوائد المالية لهذه الوسائل، وارتفعت تكلفتها الإنتاجية، وعلى الرغم من أنها مازالت المنتج الأساسي للأخبار، إلا أنها لم تعد الموزع الأول للمحتوى الاتصالي، حيث تمكنت الوسائط الرقمية من زحزحتها من مكانها الذي تبوأته عقوداً طويلة، وتمكنت هذه الوسائط الجديدة من القيام بها بهذه المهمة بنجاح وذكاء كبيرين، ساعدها على ذلك انخفاض تكلفتها والاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وسرعة التغير والتكييف والتطور التي ترتبط بالمبتكرات التي وظفتها هذه البيئة الرقمية، خاصة في ظل عوامل الجذب الأخرى المرتبطة بهذا الوسيط مثل التفاعلية وسهولة الوصول وانعدام التكلفة للمستهلك ووفرة المعلومات، بجانب كونها إعلاماً بديلاً للجماهير والمهمشين لإبداء آرائهم وتوصيل أصواتهم خاصة وأن الإعلام المؤسسي يتسم بصعوبة وصول هؤلاء الجماهير إليه.

شكلت هذه الظاهرة امتداداً لأفكار الهيمنة والتبعية التي بحثها أكاديميون كثر في العالمين المتقدم والنامي لمدة تزيد على 40 سنة، لكن تجليات الهيمنة في الخطاب الرقمي المعاصر باتت أكثر خطورة، إذ كانت في السابق هيمنة مؤسسات إعلامية على مؤسسات وتبعية مؤسسات لمؤسسات أخرى، لكنها في هذه المرة، اتسمت الهيمنة بالوصول المباشر إلى عقول البشر دون الحاجة للمرور عبر مؤسسات إعلامية تستقبلها، وتتولى إعادة إنتاجها من منظورها الخاص والقيام بدور حارس البوابة قبل أن تصل للجماهير.

لقد كان من نتيجة هذا الشكل الجديد من الهيمنة، أن أضحى عدد محدود من شركات التكنولوجيا يهيمن على عقول مليارات البشر من خلال الخدمات المتنوعة التي تقدمها الوسائط الرقمية، مثل الفيديو والاتصال والبحث والتواصل الاجتماعي وغيرها، حيث ساهمت هذه الخدمات في إعادة تشكيل المفاهيم والعادات والقيم والتقاليد والأذواق وفق المنظور الغربي، وأصبحت الثقافة الغربية مع مرور الوقت هي الثقافة العالمية التي يجب أن تغير الثقافات الأخرى ثيابها أمامها وتتبنى نموذجها باعتباره النموذج المثالي الذي يجب أن يطبق في كل دول العالم، والذي تختفي أمامه الخصوصيات الثقافية ويعلو في إطاره فكرة المواطن العالمي والثقافة العالمية لتصبح مقبولة من الجميع.

ساعد على تكريس هذا الوضع أيضاً الاستجابة السريعة من المستخدمين للوسائط الرقمية وابتعاد الجماهير الأسرع عن الوسائل التقليدية، إما بسبب ما توفره هذه الوسائط الرقمية من سمات وفوائد، مثل الحصول على المعلومات المجانية والمشاركة والاتصال والتعليق وكونها وسائل بديلة لإبداء الرأي وتوفير نمط اتصالي غير رسمي يسهل على الجمهور استخدامه وفق منظورهم للأحداث بعيداً عن سياسة الوسيلة.

إن خطورة هذا المشهد الاتصالي هي أنه يبدو في ظاهره الرحمة، باعتباره يوسع قاعدة المشاركة ويزيد حرية الاتصال، إلا أن النظرة الفاحصة تشير إلى عكس ذلك، حيث يؤدي هذا المشهد -مع مرور الوقت– زيادة هيمنة الوسائل الإعلامية الدولية على المشهد الإعلامي فيما يعرف بالاحتكار والتركيز سواء الهيمنة على الوسائل أو المحتوى أو العوائد المالية، وسيكون من نتيجة هذا المشهد تقليل التعددية والتنوع وإنتاج محتوى غير عميق وتافه في غالبيته، وذلك بسبب أن البيئة الرقمية يهيمن عليها عدد محدود من اللاعبين الكبار الذين أضحوا متحكمين في المشهد الاتصالي العالمي، والذين يفضلون السبق الصحفي على دقة المعلومة والحرية على المسؤولية وتحقيق الأرباح على الدور الاجتماعي للوسيلة وتجزئة الجمهور على الجمهور العام واختصار المحتوى على التعمق فيه والصورة على النص، وفي مقابل ذلك تعرضت الوسائط التقليدية الوطنية لكثير من عمليات التقليص والدمج وخفض التكاليف والعمالة.

إن هيمنة هذا العدد القليل من الشركات يبشر أيضاً بزيادة تبعية الأفراد والمؤسسات الإعلامية في العالم الثالث لها، مما يزيد من تكريس فكره التدفق الإخباري في اتجاه واحد، ويزيد من تضخم ظاهرة الاختلال الإعلامي بين الشمال والجنوب، والنتيجة المنطقية لهذا الوضع الجديد هو تقلص حجم السوق الحرة للأفكار وانحصار التنافس بين لاعبين قليلين جداً متنوعين في الخصائص والسمات، لكنهم متشابهون في الأهداف عبر توزيع الأدوار وتقسيم الغنائم بين بعضهم البعض، سواء في شكل عوائد مالية إعلانية أو خدمات مدفوعة الأجر.

أضحى المشهد الإعلامي الجديد له تأثير سياسي كبير في القضايا الدولية. سواء في تشكيل الرأي العام العالمي في الاتجاه الذي يخدم مصالح هذه الشركات ودولها وحلفائهم، أو ممارسة دور أكثر تأثيراً في الصراعات الدائرة في كثير من المناطق، وبالتالي فإن جزءاً كبيراً من الاتجاهات التي تتبناها الجماهير في دول كثيرة من العالم هو ما تروج له هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة والتي تجاوزت الوظيفة التقنية إلى وظائف سياسية متعددة، وأصبح ما يمارس على أرض الواقع من أفعال سياسية هو ما تروج له هذه الوسائط في الواقع الافتراضي.

لقد أصبحت التبعية باستخدام التقنية الإعلامية عملية إجبارية وليست اختيارية، وأصبحت الهيمنة الإعلامية الغربية على العقول أمراً واقعاً، بسبب انعدام التنوع في المصادر، وتحولت الآلة الإعلامية إلى أداة من أدوات الهيمنة والاستعمار الجديد بشكل تفوق على الأسلحة التقليدية، وأضحى التواجد الافتراضي في العقول أخطر من التواجد الفعلي على الأراضي، حيث أصبحت أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة والغزو الثقافي، ولكن بأسلوب عصري حديث تنجذب إليه الجماهير لا أن تقاومه وهذا هو مكمن الخطر.