عندما يسأل الإنسان عن إحساسه تجاه مآسي العالم من حوله، ويقول ببساطة إن «إحساسه عادي»، فإنه لا يدرك حجم الجريمة التي يرتكبها في حق نفسه قبل غيره. مشاعرنا هي ما يربطنا بالإنسانية، هي ما يُبقي على جذوة الضمير حيّة، لكن عندما نصل إلى مرحلة تصبح فيها معاناة البشر مجرد خبر عابر في حياتنا اليومية، تكون الإنسانية في خطر.

.

لنتأمل قصة طفلة صغيرة تموت جوعاً. في أول لحظة قد يهتز المرء ويتساءل بدهشة: «كيف يحدث ذلك؟ أين ذويها؟ أين جيرانها؟». الأسئلة تتدفق بتلقائية، وتتحرك الفطرة لتستنكر هذه المأساة. لكن عندما يتضح له أن تلك الطفلة تعيش في غزة، نجد أن مشاعر الدهشة تتبدد لتحل محلها نظرة من الاعتياد، وكأن الألم الذي تعانيه أصبح مجرد جزء من أخبار تتكرر في نشراتنا اليومية. «آه، أمرٌ عادي»، يقول البعض، «فالناس تعودت على ذلك»، ونكتفي بإضافة عبارة «الله يعينهم» دون أي فعلٍ أو تفاعل حقيقي يتجاوز هذه الكلمات العابرة.

.

وهنا يبرز التساؤل: هل نجح المجرم الصهيوني السفاح في تلبيد أحاسيسنا عبر التكرار وزرع شخصيات – وإن كانت وهمية – تقلب الواقع والحقائق إلى منحى آخر، بحيث تحوّل هذه المشاهد المؤلمة إلى قضية عابرة محصورة في مسألة «من كان السبب» واعتبارها مجرد ردة فعل؟ يبدو أن الأداة الأكثر خبثًا في هذه العملية هي التكرار الممنهج للمشاهد، لدرجة أصبحت معها مأساة أهل غزة وأطفالها العزل مشهداً عادياً تتناساه القلوب، وكأن هؤلاء ليسوا سوى أرقام جامدة في نشرات الأخبار.

.

هذا الاعتياد، أخطر ما يمكن أن نصل إليه كأفراد ومجتمعات. أن نعتاد مشاهد الجوع والموت والتعذيب وكأنها مجرد تفاصيل حياتية هو بمثابة قتل لإنسانيتنا على مراحل. أطفال غزة الذين يولدون تحت الحصار ويعيشون في ظلال القنابل أصبحوا رموزاً لهذا الاعتياد المؤلم، حيث تمر قصصهم مرور الكرام، وكأنهم أرقام مجردة في تقارير إخبارية بلا روح.

.

كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ كيف تحول الألم البشري إلى «عادي»؟ يكمن الجواب في التكرار؛ فكلما ازدادت مشاهداتنا لتلك الصور المروعة، وسمعنا المزيد من الأخبار المأساوية، ازدادت مقاومتنا للألم، وبمرور الوقت نفقد القدرة على التفاعل الإنساني الحقيقي.

.

لكن الاعتياد على الألم ليس طبيعتنا الأصلية، بل هو قناع زائف نضعه لنغطي على جروح ضمائرنا حتى لا نشعر بالذنب. علينا أن نعود إلى مشاعرنا الحقيقية، أن نرفض الاعتياد على موت الأطفال وحصار الشعوب وآلام الأبرياء.

.

إذا وصل بنا الحال إلى أن نعتبر موت طفلة في غزة «أمرًا عاديًا»، فإن هذا هو أقوى دليل على حاجة عالمنا إلى يقظة ضمير جماعية، يقظة تعيد إلينا إنسانيتنا، وتجدد ارتباطنا بالألم الحقيقي، بعيدًا عن الاعتياد القاتل. فغزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار؛ إنها جرح عميق لأهلها ولكثير من الناس الذين يحملون في قلوبهم مشاعر التضامن والألم، وفي نفس الوقت هي وصمة عار في صفحات الكثير من العرب والمسلمين الذين يستصغرون أصغر المواقف في سبيل الدفاع أو الوقوف مع هؤلاء المظلومين، وكأن الواجب الأخلاقي والإنساني قد بات محل تهاون أمام مشاهد الظلم اليومي.