في نطاق حملتها الترويجية للحديث عن مشروعاتها الناجحة في مجال “أتمتة الخدمات الصحية”، وعلى وجه التحديد تلك التي تتولى أتمتة المستشفيات، عقدت شركة “سيسكو” الأمريكية، ما يشبه ورشة العمل التي سلطت الأضواء على تلك التجارب الناجحة منها في بلدان مختلفة مثل الصين، وإيطاليا. توقفت “سيسكو” مطولاً عند محطة صغيرة، لكن يبدو أنها تحظى بأهمية خاصة لدى الشركة. البحرين كانت تلك المحطة، وعلى وجه التحديد كان الحديث عما تم إنجازه في “مستشفى الملك حمد الجامعي”.
كانت المداخلة الثانية في ورشة العمل تلك من نصيب الرئيس التنفيذي لتقنية الاتصالات والمعلومات في مستشفى الملك حمد، الشيخ خالد آل خليفة، الذي قدم عرضا غنيا عن إجراءات الأتمتة الحديثة التي تم تنفيذها في صلب الخدمات التي يوفرها المستشفى لزواره من جانب، وتلك المتعلقة بالإدارة وتحسين الإنتاجية من جهة أخرى. كان العرض بمثابة جولة تخيلية شيقة في رحاب ذلك المستشفى، وبين ربوع أجنحته، زاوج خلالها الشيخ خالد بين شرائح ساكنة على الشاشة، ومقاطع حية من أشرطة فيديو تم التقاطها من العلميات اليومية التي تتم داخل أروقة المستشفى.
توقف الشيخ خالد في عرضه عند أربع قضايا رئيسة تمس صلب برامج الأتمتة التي تعمل اليوم، وبنجاح في إدارة المستشفى والخدمات التي يقدمها. كانت الأولى من بينها هي أن ما يسير إدارة المستشفى اليوم ليس مجرد أتمتة متناثرة لإجراءات متفرقة، بقدر ما هي منصة كاملة يقوم عليها نظام متكامل. وكانت القضية الثانية وصفا لمسيرة اتخاذ قرار الأتمتة، لما يحتضنه مثل ذلك القرار ليس تحديا لإدارة المستشفى، وعلى وجه الخصوص لإدارته التقنية فحسب، وإنما لما يضعه من أعباء مالية على عاتق الموازنة المخصصة للمشروع. كان الموقف بحاجة إلى قرار شجاع مسؤول قادر على رؤية المستقبل كي يكون متمكنا من الخروج من أسر قيود الحاضر الضيقة نحو فضاءات المستقبل الرحبة. وهذا ما حصل فعلا، عندا قررت الإدارة المضي قدما في مشروع الأتمتة، الذي يشكل سابقة إيجابية في منطقة الشرق الأوسط، عندما تقاس الأمور بعدد الأسرة، وتنوع الخدمات، والعمل بمنصة إلكترونية متكاملة. أما الثانية، فكانت قرار اختيار برامج التقنيات الملائمة، التي لا تضمن توفير الخدمات وبكفاءة عالية، في الوقت الحاضر فحسب، وإنما تتمتع بالمرونة التي تبيح لها التطور في المستقبل من جانب، وإمكانات مخاطبة أنظمة أخرى، ربما لا تكون متكاملة، لكنها معمول بها حتى في بعض المستشفيات الحكومية التي تدار من قبل الدولة، من جانب آخر. أما القضية الثالثة، فكانت إدارية بحتة، حيث أشار الشيخ خالد، إلى الجهود المطلوب بذلها من أجل الوصول إلى الصيغة السليمة السلسة لإقناع الجيل المتقدم في السن، نسبيا، والذي يضم الأفضل من الناحية المهنية، بجدوى، وربما ضرورة الانتقال من التقليدي إلى “الافتراضي”، وهي عملية مرهقة، ومعقدة أيضا، لكنها أيضاً من السياسات الحاسمة الشجاعة التي لا يمكن الاستغناء عنها في حال اتخاذ قرار الانتقال من الأنظمة التقليدية إلى تلك المؤتمتة.
على نحو مواز لما سلط عليه عرض الشيخ خالد من أضواء، تقفز في ذهن من حضر تلك الورشة مجموعة من القضايا التي من المتوقع أن تواجه مشروع يمثل طموحات إدارة مستشفى الملك حمد الجامعي المبررة، والتي يمكن تلخيص الأهم من بينها في النقاط التالية:
1. متطلبات التحول، فالمسألة هنا ليست مجرد قرار، لا مجال للتشكيك في صحته، وإنما هناك متطلبات إدارية معقدة يحتاجها مثل هذا التحول، خاصة وأن تجربة مستشفى الملك حمد الجامعي، تعد من التجارب الرائدة في هذا الميدان، في منطقة الشرق الأوسط. تتراوح تلك المتطلبات من تهيئة الطاقم الطبي العامل في المستشفى، وتعرج على الممرضات، قبل أن تصل إلى المراجعين من المرضى أنفسهم. وفي كل محطة من تلك المحطات، هناك جهد لا يستهان به على صعيد تأهيل الإنسان، قبل القبول بالنظام أو اختيار الأجهزة والمعدات. فتحويل السلوك الإنساني الذي أخذت شكله النهائي من خلال تراكمات بطيئة لكنها متواصلة، بحاجة إلى خطة متكاملة ربما يستغرق تنفيذها فترة ليست بالقصيرة. ومن هنا فهناك حاجة ماسة، من أجل إنجاح تجربة مستشفى الملك حمد الجامعي، إلى إنضاج ذلك التحول على نار هادئة، كي تأتي النتائج كما خطط لها، ويتوخى منها، دون أن نغفل الضغوط التي يمكن أن تعاني منها إدارة المستشفى التي يتوقع منها البعض سرعة إنجاز مثل هذا التحول.
2. ضرورات التقييس المتقيد بالمعايير الدولية. وما تجدد الإشارة له هنا هو أن الوصول إلى مستوى التقييس، وبالمعايير الدولية، خاصة عندما يكون في مجال الأنظمة الصحية التقليدية مسألة معقدة ومكلفة في آن. الأمر يزداد تعقيدا وكلفة عندما يرقى إلى مستوى الأتمتة أيضاً. من هنا، ومما لا شك فيه أيضا، أن التحول يقتضي إجراءات معيارية مسبقة تضع الأرضية التي تبنى عليها سياسات تقييس الأنظمة المؤتمتة. المشكلة هنا هو أن الواقع يكشف عن وجود أكثر من مدرسة قائمة اليوم وتعمل بنجاح، لتقييس الخدمات الصحية، بما في ذلك إدارة المستشفيات والخدمات التي تقدمها. ما يدعونا إلى إثارة هذه النقطة، وقد أتى على ذكرها الشيخ خالد في الإجابة على التساؤلات التي أثيرت خلال عرضه، هو انه حتى الآن، هناك أكثر من مدرسة عالمية للتقييس، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الأسترالية، والكندية، والأمريكية، ولكل من هذه المدارس أتباعها، ومن بينهم مستشفيات بحرينية أيضاً.
3. الارتقاء بالخدمات إلى مستوى المنتجات، فمن يتمعن في شرائح العرض وأشرطة الفيديو المرافق له، والموضحة للخدمات التي بات في وسع مستشفى الملك حمد الجامعي تقديمها، يستشف أن هناك فرصة كبيرة لتحويل تلك الخدمات الإلكترونية إلى أكثر من منتج، يحمل علامة البحرين التجارية. وهذه نقلة نوعية في غاية الأهمية عندما ينظر لها في الإطار العامة لخطط التنمية البحرينية الطامحة إلى تحويل البحرين إلى واحد من مراكز إنتاج سلع تتمتع بالمواصفات الدولية، وتوفير الخدمات القادرة على المنافسة في الأسواق العالمية، في قطاع تقنيات الاتصالات والمعلومات. مثل هذه الدعوة لمثل هذا التحول، لا تنطلق من انفعالات عاطفية إيجابية لما ورد من مواد في عرض الشيخ خالد، بقدر ما هي تشخيص دقيق لما تحت إدارة المستشفى من إمكانات وفرها النظام المؤتمت المعمول به الآن في إدارة عمليات المستشفى ذاته.
في اختصار يقف مستشفى الملك حمد الجامعي اليوم أمام تحد مهني وفني من معيار عالمي، وليس هناك من تساوره شكوك في قدرة إدارة المستشفى على التصدي لتلك التحديات وتجاوزها بالمستوى المطلوب من النجاحات، الذي لن يكون حينها في المجال الصحي فحسب، وإنما سيكون بحرينياً بالمعنى التنموي الشامل المتكامل لتعبير التنمية.