توقفنا في المقال السابق عند سؤالي للمفوض السامي عن تغييب قضايا حقوق الإنسان في الوطن العربي باستثناء البحرين من حديثه ذلك اليوم؟ وهل يعني هذا أنها أسقطت من أولويات اهتمامات المفوضية السامية لحقوق الإنسان؟ لنستكمل عرض المشهد ومن ثم نخرج ببعض الخلاصات منها ومن مشاهد كثيرة مشابهة تلته:
كانت المفاجأة والامتعاض باديين على وجه المفوض وهو يجيب عن سؤالي حيث قال: «كوني لم أتكلم عن تلك البلدان لا يعني أبداً أننا لا نهتم بقضاياها فنحن نقوم بجهود كبيرة في كل منها وفي كل بلدان العالم».
واستمر بعد ذلك في أخذ الأسئلة والإجابة عنها، واستمر السيناريو على نفس المنوال حتى أني كنت أجلس في مقابل «صفوف القاعة بالطول والحضور متقابلين»، رئيس لمنظمة حقوقية عالمية وأصله جزائري، ومنظمته تعنى بانتهاكات حقوق الإنسان في البلدان العربية تحديداً، أخذ يردد أمامي بامتعاض، «البحرين البحرين البحرين..ألا يوجد بلاد في العالم غيرها؟»، وهنا لن أنسى أن السعودية أخذت نصيبها من النقاش حيث حرص أعضاء «اللوبي» الذي ذكرته في مقالي السابق أن يوجهوا أسئلة تربط انتهاكات حقوق الإنسان في البلدين ببعضها، وذلك لارتباط النظامين فيهما ببعضهما وتشابه سياستهما خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
ولكن ذلك لم يكن كل شيء، فقد كانت المفاجأة الأكبر في نهاية اللقاء، حيث كان السؤال الأخير لأحد النشطاء البحرينيين وفحواه، لوم المفوضية على عدم قيامها بما يكفي لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، وحين قام المفوض بالرد عليه كان يعتذر إليه ويناديه باسمه: «أخي «فلان» ثق بأننا نولي هذه القضية أكبر اهتمام ونقوم بكل ما يمكن القيام به للضغط على بلادكم لتحسين واقع حقوق الإنسان، حتى أني لم ألتق بأي ممثلين عن منظمات حقوق الإنسان في العالم سواكم وهذا أكبر دليل على اهتمامنا بكم وبقضاياكم.. ولكننا نعدكم بالمواصلة والاستمرار والقيام بالمزيد».
بعدها أنهي اللقاء وضجت القاعة بأحاديث الحضور وبنقاش ما جرى، وبمظاهر السعادة والفرح وأجواء التهنئة بين أعضاء ذلك «اللوبي» الذي حقق أهدافه من ذلك الاجتماع، وأخبرني زميلي بأنه قام بحساب الوقت الذي نوقش فيه ملف البحرين وملف السعودية فكان نصيب البحرين عشرين دقيقة والسعودية عشر دقائق، أي نصف الوقت تماماً. انتهى ذلك المشهد ذلك اليوم ولكنه تكرر بشكل أو بآخر بعدها وفي الدورات التي تعاقبت بعدها، وهنا لا يسعني إلا أن أتذكر قول أحد موظفي المفوضية عالي المنصب لي في حديث جانبي في إحدى الدورات أن «المفوض يتلقى في المتوسط سبعين رسالة إلكترونية يومياً من منظمات مجتمع مدني حول العالم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، وهذا شيء لا يحدث مع أي دولة أخرى، وبالتالي لا يمكن للمفوض إلا أن يتجاوب معها باهتمام أكثر من غيرها».
وهنا أود أن أنوه أنه لا يمكن لأحد إنكار الجهود التى بذلها ومازال يبذلها المجلس لتعزيز وحماية حقوق الإنسان، إلا أننا نظل بعيدين تماماً عن الآمال التي عقدت عند تأسيسه، ولتحقيق تقدم حقيقي تستفيد منه الإنسانية، كما إن الكثير من دول الشرق والشرق الأوسط تنتقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، انتقادات لاذعة، لتسييس أعماله والانتقائية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان في العالم، وذلك خضوعاً لأوروبا وأمريكا ولخدمة أغراض بعينها، وأن أداؤه بعد مرور عشر سنوات على تأسيسه لا يتسم بالحياد والموضوعية، عند طرح قضايا حقوق الإنسان في الدول النامية والعالم الثالث والشرق عموماً والبحرين غير مستثناة من هذا الطرح، وأنه في مواجهة الصراعات الدولية والانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية اليومية أخذ المجلس منحنى أكثر تسييساً، بعيداً عن طبيعته كجهاز فني غير مسيس تابع للجمعية العامة للأمم المتحدة، ويقوم على احترام التنوع والتباين بين المجتمعات المختلفة.
وتصر هذه الدول على اتهام المجلس بالوقوع في براثن التوازنات والتحالفات الدولية، واستخدامه كأداة للترويج لأطروحات مجتمعية وأيديولوجيات معينة، بعيداً عن مراعاة التعددية الثقافية، مما أضعف من فاعليته وحياده وقدرته على التعامل مع المشاكل الدولية المختلفة، ولم يستطع في أغلب الأحيان الاستجابة بصورة فعالة لاحتياجات وتطلعات البشر حول العالم.
وللحقيقة هذا ليس فقط كلام البعثات الرسمية وإنما كلام الكثير من خبراء حقوق الإنسان حول العالم والذي سمعته كثيراً منهم وفي كافتيريا المجلس بجنيف بالذات، والتي يعتبرها معظم المعنيين بحقوق الإنسان المطبخ الحقيقي لسيناريوهات وملفات حقوق الإنسان في العالم، والتي تعقد فيها الاجتماعات التي تنتج هذه الملفات.
نحن على خلاف كثيرين نطالب البحرين، بل كل دول الخليج والدول العربية، أن تولى أهمية خاصة وكبرى لعمل مجلس حقوق الإنسان، وفقاً لولايته والموضوعات التي يتم تناولها في إطار جدول أعماله وما يتعلق منها بالبحرين والدول العربية على وجه الخصوص، ونشجعها على الحرص على الامتثال لجميع تعهداتها والتزاماتها الدولية دون استثناء ودون تمييز أو تفضيل بعضها على البعض الآخر، وذلك من خلال المجلس وغيره من محافل دولية وإقليمية لإعلاء مبادئ حقوق الإنسان واحترام وتعزيز وتحسين واقعها. كما نطالب المجلس بالمضي قدماً في تقديم الدعم الفني للبحرين في مجال حقوق الإنسان والذي تم الاتفاق عليه ولكنه لا يزال يعاني من التعثر.
وأخيراً سأختم بتوجيه سؤال للمفوض السامي والمفوضية وكثير من منظمات حقوق الإنسان حول العالم وكثير من الأجهزة الإعلامية حول العالم: هل حقاً أوضاع حقوق الإنسان في البحرين أسوأ من مثيلتها في فلسطين المحتلة أو كما أسميتموها «إسرائيل»؟!
لا تستغربوا سؤالي هذا الآن فقد أصبح سؤالاً مشروعاً بعد أن عهدنا تكرار الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين من وجهة نظر المفوضية في كلمات الافتتاحية للمفوض السامي لدورات المجلس، والذي يأتي عادة بعد الحديث عن اللاجئين وسوريا وليبيا فالبحرين، ويتبعه مباشرة الحديث عن إسرائيل، مما يوحي في هذا الترتيب أن أوضاع حقوق الإنسان في البحرين أسوأ من تلك في البلد المحتل الوحيد في العالم، فهل هذه هي الرسالة التي تريد المفوضية إيصالها للعالم؟!
سيكون هذا السؤال موضوع مقالي القادم ولكن من زاوية أشمل من زاوية المفوضية فقط، ولنسلط الضوء أكثر على الصورة النمطية للبحرين التي يراد للعالم أن يراها بها، ولماذا؟
عضو مجلس المفوضين بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان - رئيسة جمعية «معاً» لحقوق الإنسان