أيمن شكل – تصوير: محمد عز


درس في الأحساء والأزهر لسنوات.. «الوطن» تسرد مسيرة أحد نجباء البحرين:

ارتقى المنبر في الثالثة عشر وكان يسير للصخير يومياً لتلقي علم النحو


وجد السلوى في حمل ميراث والده العالم في جده الإمام الشيخ محمد بن شريف

الصعاب استنفرت طاقاته فانكب على حفظ القرآن الكريم

لحبه القراءة.. زميله بالأزهر: «سيموت هذا الرجل والكتاب في يده»

أهالي الزلاق استقبلوه استقبال الأبطال كونه أول خريج أزهري منها


سيرة أحد رجال البحرين النجباء الذي سخر حياته منذ الطفولة لطلب العلم وارتحل في طلبه إلى الأحساء 6 سنوات ثم إلى الأزهر لسبع سنوات، فعاد للبحرين عالماً ورجل دين ومعلماً في دائرة المعارف ثم انتقل للقضاء ليقضي فيه بقية حياته إلى أن قضى الله أمره.

في مسيرة الشيخ يوسف الصديقي التي سردها حفيده عبدالناصر الصديقي تبدأ القصة منذ أن تنفس الشيخ الحياة في قرية أم الشجر بالمحرق عام 1919، وقد ماتت والدته فاطمة بنت محمد شريف وعمره 4 سنوات قبل أن يستشعر حنان الأم فذاق طعم اليتم، إلا أنه ولد في أسرة تميزت بالعلم، وكان لديها الكثير من العلماء، فشب منذ صغره على ترتيل كتاب الله وسماع الحلقات العلمية ودروس الوعظ والإرشاد، وكان والده الشيخ أحمد إمام وخطيب مسجد أم الشجر.

وظل في حضانة جدته أم أمه وجده الشيخ محمد شريف الذي رعاه وكان فخوراً به يأخذه معه حيث ذهب، كما اعتنت به الأم الفاضلة شيخة البوعينين فأرضعته مع ابنتيها وعوضته عن حنان الأم حتى إنه لم يشعر أنه فقد والدته، ولم ينس الشيخ يوسف هذا الجميل فكان يبرها بزيارته لها. وظل في حضانة جدته وجده فانتقل معهما إلى قرية الزلاق في سفينة صغيرة (جالبوت) من أم الشجر إلى الزلاق، لكنه كان يذهب لزيارة والده في أم الشجر كل شتاء ليقرأ على يديه القرآن، فاهتم بتعليمه علوماً أخرى فحفظه شيئاً من «معن الزيد» وهي أرجوزة في الفقه الشافعي تزيد على ألف بيت ثم شاء الله تعالى أن يفقد الشيخ والده وهو في سن الخامسة عشر ليفقد برحيله وجه الأبوة، والسند الذي يتكئ عليه، والوتد الذي يحفظ استقرار الطفل، ويحقق أمنياته، ويلبي طلباته، لكنه وجد السلوى في حمل ميراث والده العالم وخطيب المسجد، وصقل علمه بالاستعانة بجده الإمام وخطيب جامع الزلاق، الشيخ محمد بن شريف.

ولعدم وجود مدارس نظامية في الزلاق أسس بن شريف أول مدرسة غير نظامية واتبع النهج التقليدي، بتعليم الأولاد القرآن الكريم، وشيئاً من مبادئ اللغة العربية والعقيدة في الجامع الصغير الذي بني عام 1926.

وكان الشيخ محمد بن شريف يحظى باهتمام ورعاية الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين آنذاك، رحمه الله وطيب الله ثراه، وكانت بينهما صلة ومودة وكان يقربه الحاكم ويدنيه لمكانته العلمية وورعه ومعرفته بأحوال الناس، ويرجع إليه في الكثير من القضايا التي تهم البلاد من استشارات وغيرها، كما أنه كان هو المأذون الشرعي في تلك المنطقة، وكان لا يجري عقد النكاح إلا بموافقة من الشيخ حمد بعدم ممانعته من الزواج أو الطلاق وما يتبعه من أحكام، وقد زاره الشيخ حمد في منزله بالزلاق مرات عدة.

في تلك القرية شب الطفل يوسف الصديقي متعلقاً بالبحر حيث السكون ممزوج بعظمة البحر، وحيث الصعاب وقسوة العيش لكن تلك الصعاب استنفرت طاقاته الكامنة، فانكب على حفظ القرآن الكريم، ولكن لم يكمل حفظه حتى غادر إلى الأحساء عام 1930م.

لقد كان الشيخ في صغره محباً للقراءة، شغوفاً بالكتب الدينية وكتب الشعر العربي، وكان يذهب إلى المسجد ليقرأ القرآن ويحفظه وكان تعلقه بالمسجد شديداً، يأخذ معه كتابه الذي وقع عليه بصره في مكتبة جده محمد شريف، وهي مكتبة ضنينة بالكتب والمراجع ولكن بها من الكتب ما يشد به إيمان الإنسان، ويقوي لغته، ويعرفه أحكام دينه كان المسجد هو المكان الذي يرتاح إليه ويقضي فيه الساعات في القراءة والحفظ.

ولازم منذ صغره السيد أرحمة الدوسري، وتعلم منه الكثير، وحفظ أشعاره النبطية، وكان يجلس إليه ساعات طويلة، ويكتب ما يمليه عليه من الشعر، فتأثر بشعره، ما رافق الوجيه عبدالله بن جبر الدوسري الذي كان رئيس ديوان سمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين وكان ينظم الشعر النبطي.

لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين ارتقى المنبر كان جريئاً، ومحباً للعلم، فثقافة الجد الشيخ محمد شريف غرست حب العلم في نفس الطفل، وكان قد تأثر بجده تأثراً كبيراً، فكان يحاول تقليده، فاكتسب مهارة الخطابة منه وهو في سن صغيرة، فكان يستمع إليه وهو يخطب بصوت عال، حيث لا مكبرات صوت في ذاك الوقت، ولكنه كان يُسمع من بآخر المسجد من قوة صوته.

وفَسَحَ جده له المجال أن يرتقي المنبر بعد أن وجد فيه القدرة والجرأة على ذلك، فصعد أول عتبة المنبر في جامع الزلاق ولم يكن متردداً أو مرتجفاً مقداماً شجاعاً، فصعده وألقى خطبته بثقة تامة، ويذكر أنه حضر خطبته الشيخ علي الأنصاري إمام جامع الشيوخ بالصخير، فكان وهو يستمع إلى الخطبة يهز رأسه، وكان يجلس بجانبه خاله محمود فلما رأى أن الشيخ علي يهز رأسه، فرح خاله بذلك، فلما انتهت الخطبة قال خاله محمود للطفل يوسف: لقد رأيتُ علامةً التعجب في وجه الشيخ علي، ورأيت اهتزاز رأسه، فرد عليه الشيخ يوسف، لقد هز الشيخ رأسه من كثرة ما لحنت في خطبتي.

وبعدها دعاه الشيخ علي لتعلم اللغة العربية فكان يذهب يومياً من الزلاق إلى الصخير مشياً على الأقدام حتى انتهى من دراسة كتاب الأجرومية في علم النحو. وتزوج الشيخ الصدّيقي من ابنة خاله شريف محمد الصدّيقي عام 1940 حين كان عمره 21 سنة ولم يكن يميل إلى الزواج من ثانية، ويرى أن الواحدة هي الأصل وأن التعدد هو استثناء جاء لحكمة.

ولأن الأحساء كانت قلعة العلم التي يأتيها الطلبة من كل حدب وصوب، ينهلون العلم من علمائها الأفذاذ وفيها من الأربطة التي تشمل على غرف كبيرة للدراسة، وغرف للنوم، والإعاشة لمن لا سكنى له في البلد فقد كان يفد إليها الطلبة من الهند وأفريقيا وتركيا والعراق وفارس، فقد ارتحل إليها الشيخ يوسف وهو في عمر الثالثة عشر حيث بعثه عمه الشيخ عبدالله بن محمد الصديقي لما رأى منه قوة في الحفظ وحب للعلم وتركه للهو واللعب مع الأطفال والسؤال عن الكتب التي كان يشتريها العم أثناء سفره.

وتوجه الشيخ يوسف إلى المنامة براً وركب من فرضة المنامة متوجهاً إلى منطقة العجير ومنها إلى الأحساء براً على ظهر الحمير في رحلة تستغرق ما بين يومين إلى ثلاثة، فاستقر في رباط الشيخ محمد بن أبي بكر والذي تسلم رسالة من عم الشيخ يوسف يطلب منه أن يضمه لسلك التدريس وأن يواظب على حفظ المتون وألا يخرج للسوق أو لمكان آخر أو مصاحبة غير الجنس.

ومكث الشيخ يوسف في الأحساء 6 سنوات درس فيها علوم الفقه والمتون ومن بينها متن الزبد وهي منظومة في الفقه الشافعي تربو على ألف بيت وأعجب به الشيخ أبوبكر لقوة حفظه وذاكرته، ثم عاد بعد أن قضى شبابه ليلتحق بوظيفة إمام وخطيب جامع الزلاق، وإبرام العقود مكان جده الذي تقدم به العمر أصابه العمى وكانت المحكمة الشرعية في ذلك الوقت قد كلفته بأمور الزواج والطلاق.

وكان حلم الشيخ يوسف أن يذهب إلى مكة لينهل العلم من علمائها، لكن الله لم يهيئ له ذلك، وتكفل الشيخ سلمان بن حمد حاكم البلاد بذهاب الشيخ إلى الأزهر الشريف حيث كان معقلاً للعلم والعلماء وكان شيخ الأزهر بمثابة الحاكم الذي يهابه الناس، فبدأ رحلته في العام 1952 مع أول بعثة من البحرين.

وترك وراءه زوجته وأولاده الصغار الذين لم يبلغوا الحلم فتركهم وهم في أشد الحاجة لعطف الأبوة وحنانه، ليبقى في مصر سبع سنوات حصل خلالها على الشهادة الثانوية ثم العالمية للبحوث.

ودرس العلوم الشرعية على يد مشايخ الأزهر مثل الشيخ أبو السعود والشيخ الماوي والتازي، ويذكر الشيخ يوسف أنه حينما ذهب إلى الأزهر الشريف وحضر مقابلة القبول قال له أحد الشيوخ «إنت جاي تطلب العلم يا نحيف» وكان نحيف البدن، وهذه عادة المصريين في الدعابة، وحينما تم توجيه أسئلة القبول إليه استغرب الشيوخ من أنه كان يجيبهم بما يحفظ من متون كثيرة في الفقه والحديث والنحو، وهو ما كان له أثر الإعجاب من أعضاء اللجنة.

وكان ضمن المبتعثين من وزارة المعارف للدراسة بالأزهر الشريف، الشيخ عبدالله الفضالة والشيخ عبدالعزيز المطوع والشيخ أحمد المطوع ابن عمه والشيخ راشد البوعينين، وقد كان لكل عضو من أعضاء هذه البعثة مزاجه الخاص وشخصيته المختلفة المستقلة، فالشيخ عبدالله الفضالة كان ذا شخصية قيادية محباً لإلقاء الدروس الدينية، أما راشد البوعينين فكان رجلاً هادئ الطباع يمتاز بالحلم والأناة، على عكس الشيخ عبد العزيز المطوع الذي كان حاد الطباع قوي الشخصية، أما الشيخ أحمد المطوع فقد كان رجلاً كفيفاً سريع البديهة، قوي الحفظ، وكان لصيق الشيخ الصديقي حيث كانا يراجعان دروسهما معاً.

ورغم أن القاهرة الجميلة تضع أمام قاطنيها الكثير من عناصر الترويح عن النفس إلا أن الشيخ يوسف وجد راحته بين الكتب وزيارة المكتبات الكثيرة في تلك المدينة الفسيحة، وكلما جمع قدراً من المال اشترى به الكتب حتى إن أحد الطلاب علق عليه قائلاً: «سيموت هذا الرجل والكتاب في يده».

ويذكر الشيخ يوسف خفة دم المصريين الذين كون معهم صداقات وثيقة وعلاقات حميمة، أنه حضر درساً في علم التفسير لأحد الشيوخ وهو يفسر سورة يوسف عند قوله تعالى «واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر»، حيث كان للشيخ المصري تفسيراً قال فيه «إن عزيز مصر لم يكن صعيدياً، فلو كان صعيدياً لضرب يوسف على دماغه وموته».

والتقى الشيخ يوسف «بفطاحل» العلم في مصر ومنهم الشيخ محمد الغزالي والشيخ الباقوري والأديب طه حسين، كما كتب مقالات في مجلة الإسلام الأسبوعية والتي كانت تصدر في جميع أنحاء العالم.

وبعد سبع سنوات قضاها في ربوع القاهرة لم يتخللها إلا زيارة واحدة للوطن، عاد الشيخ يوسف في عام 1959 وكان في استقباله حسن بن حسن الدوسري والذي نقله بسيارته من المطار إلى الزلاق وهناك استقبل استقبال الأبطال الفاتحين كونه أول خريج أزهري من القرية الصغيرة التي تضم نسبة كبيرة من الأميين، فاحتشد الأهالي رافعين أعلام البحرين وأعلاماً خضراء وبيضاء فرحاً بعودة الشيخ الصديقي.

ويذكر الدكتور عبدالله المطوع الذي كان طفلاً آنذاك حين التقى بالشيخ الصديقي والذي حياه بكلمة لم يفهمها في ذلك الوقت قائلاً له «إزيك»، وكان دخوله للقرية في وقت صلاة المغرب فقام بالصلاة بالناس في المسجد وسمعوا لأول مرة تلاوة قرآنية مختلفة تأثر فيها الشيخ يوسف بقراء مصر الأعلام.

وعين الشيخ يوسف مدرساً في دائرة المعارف لثلاث سنوات إلى جانب الخطابة بجامع القضيبية بأمر من سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة طيب الله ثراه، وكان يعقد على المواطنين ويحث الناس على الزواج، وعقد على شخصيات من أبناء العائلة المالكة حيث كان أول عقد للشيخ عيسى بن راشد آل خليفة على كريمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة والذي قد توفي في ذاك الوقت، وقال الشيخ يوسف «حرصت على أن أسمع موافقتها ورضاها بنفسي»، كما أجرى الشيخ يوسف عقد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم في مجلس الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله وطيب الله ثراه في الرفاع.

وبعد قضاء الشيخ 3 سنوات في مهنة التدريس، التحق بسلك القضاء في المحاكم الشرعية بأمر من الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في عام 1962، والذي أوصى والده أبناءه به خيراً، فقال لأولاده «تحملوا بالشيخ يوسف، تراه رجل عالم وراح ينفعكم» ومن ذلك الوقت كان أبناء الشيخ سلمان أوفياء للشيخ يوسف يكنون له كل محبة وتقدير، احتراماً لوصية أبيهم.

وبعد أن انتقل الشيخ سلمان إلى الرفيق الأعلى، أرادوا تنفيذ وصية أبيهم فصدر الأمر الأميري بتعيينه قاضياً شرعياً.