في عالمٍ تقوده الأرقام والخوارزميّات والتحليلات بشكلٍ متزايد؛ أصبحت البيانات حجر الزاوية في عمليّات اتّخاذ القرار في مختلف الصناعات. إنّ الوعد بالموضوعيّة والكفاءة يجعل البيانات أداة لا تقاوم لقادة الأعمال الّذين يهدفون لتوجيه مؤسّساتهم نحو النجاح. ومع ذلك، تسلّط بعض الأحداث الأخيرة الضوء على تحذير مهم: يمكن أن يؤدّي الاعتماد المفرط على البيانات إلى نتائج غير متوقّعة قد تكون كارثيّة في بعض الأحيان!

لنأخذ على سبيل المثال، انهيار شركة التجزئة البريطانيّة ويلكو Wilko في عام 2023، هذه الشركة الّتي تأسّست في عام 1930، ونمت لتصبح سلسلة متاجر تجزئة معروفة في المملكة المتّحدة. ففي مواجهة المنافسة الشديدة في قطاع البيع بالتجزئة؛ اتّخذت الشركة العديد من القرارات الاستراتيجيّة الّتي بدت منطقيّة بناء على تحليل البيانات، مثل احتفاظها بعددٍ كبير من المتاجر في الشوارع الرئيسة؛ دون أن تأخذ في الحسبان بصورة كافية التحوّل في سلوك المستهلكين نحو التسوّق عبر الإنترنت ومجمّعات البيع بالتجزئة خارج المدن.

علاوة على ذلك؛ حاولت الشركة إعادة تحديد موقعها من متاجر التجزئة الّتي تقدّم خصومات إلى علامة تجاريّة أكثر رقيّاً؛ متأثّرة بالبيانات الّتي تشير إلى ارتفاع هوامش الربح في الأسواق المتميّزة. ومع ذلك، أهملت هذه الخطوة الجوانب النوعيّة لهويّة العلامة التجاريّة وولاء العملاء. من خلال التركيز على الأرقام وحدها؛ أغفلت الشركة عوامل حاسمة مثل ديناميكيّات السوق المتغيّرة وتوقّعات العملاء؛ مما ألقى بظلاله في نهاية المطاف على النتائج طويلة الأجل.

لا يقتصر الفشل في النظر إلى الآثار الأوسع نطاقاً على ويلكو، فقد وقعت العديد من الشركات في نفس الفخّ؛ متجاهلة في كثير من الأحيان قيود تحليل البيانات. على سبيل المثال؛ أوقفت شركة eBay الشهيرة بعض الإعلانات المدفوعة على محرّكات البحث مثل Google، بعد أن أدركت من خلال تجربة أجراها فريق من الاقتصاديّين؛ أنّ الإعلانات لم تكن تساهم في مبيعاتها بالقدر الّذي كان يُعتقد في البداية. وعلى غرار ويلكو؛ فقد وثقت eBay في البيانات على المستوى السطحيّ دون التشكيك في تطبيقها الأوسع، وتمّ التركيز على المقاييس الماليّة الفوريّة مع تجاهل العواقب طويلة الأجل.

إنّ ما تشترك فيه هذه السيناريوهات ليس الفشل في تحليل البيانات في حدّ ذاته؛ بل الفشل في دمج البيانات مع البصيرة والخبرة البشريّة. يُمكن للبيانات أن تخبرنا بما يحدث، ولكنّها غالباً لا تروي لنا القصّة كاملة بسبب القصور في تفسيرها للأسباب. فهي تفتقر إلى القدرة على فهم العواطف والتحوّلات الثقافيّة والسلوكيّات غير العقلانيّة الّتي هي بطبيعتها بشريّة، ويمكن أن تؤثّر بشكل كبير على النتائج. وهذا يقودنا إلى ما توصّلت له دراسة منشورة مؤخّراً بعنوان (Where Data-Driven Decision-Making Can Go Wrong) على موقع مجلّة هارفارد بزنس ريفيو في العدد الحاليّ لشهر سبتمبر، حيث حذّرت الدراسة من أن الثقة العمياء بالبيانات أو رفضها دون تحليل شامل؛ قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات مضللة تستند إلى تفسيرات خاطئة للأدلة.

أخيرًا، نستطيع القول بأنّ المقياس الحقيقيّ للقيادة الفعّالة في هذا العصر المشبع بالبيانات هو القدرة على رؤية ما وراء الأرقام. لذا يجب على قادة الأعمال تهيئة بيئة يتمّ فيها تعزيز المناقشات حول تفسير البيانات والبحث عن وجهات نظر متنوّعة يُمكن أن تمنع الأخطاء المكلفة. إنّ تحسين عمليّة اتّخاذ القرارات المستندة إلى البيانات يتمّ من خلال التقييم النقديّ للأدلّة والتأكّد من صحّة البيانات وقابليّة تطبيقها، وعدم الخلط بين الارتباط والسببيّة أو التركيز على نتائج محدّدة وغير ذات صلة أو المبالغة في تعميم النتائج؛ هذا النهج المتوازن والموضوعيّ قد يحوّل الأرقام الأوّليّة إلى رؤى قويّة تسمح للمؤسّسات من خلالها اتّخاذ قرارات أكثر استنارة وأكثر واقعيّة، ويعزّز من نجاحها وازدهارها على المدى الطويل.

[email protected]