من بين ما ذكره لي والدي -رحمه الله- واقعة حصلت لجدي الذي كانت له فرس أصيلة، عزيزة عليه، فمر بأرضه رجل بدوي، أعجبته الفرس ووقعت في نفسه حتى طمع فيها، وببساطة خطط للاستحواذ عليها، وبنظرة سريعة علم أن لجدي شقيقاً شجاعاً سريع الانفعال، فما كان من الرجل إلا أن جلس ودفع ببعيره إلى أرض شقيق جدي، ليخرب زرعها، وهو يعلم أن هذا الفعل سيثيره، وهذا ما حصل بالفعل، فقد توجه إلى البعير وطرده، ثم دفع الرجل البدوي بالبعير مرة أخرى، فطرده شقيق جدي وحذر البدوي، لكن البدوي أرسل بعيره مرة ثالثة، فما كان من شقيق جدي إلا أن سحب خنجره ونحر البعير، هنا انتفض البدوي، وقال لشقيق جدي: (ذبحت بعيري، وديته فرس أخيك أو رأسك) هنا حضر جدي ومعه عدد من الشيوخ والوجهاء، وقالوا للبدوي نعوضك بعيراً أو اثنين وارحل، فأبى إلا الفرس، فقال له جدي: (لن تأخذها) فقال البدوي: (إذن أقتل به رجلاً منكم، وأصبح في بادية سوريا) وهي بعيدة جداً عن موضع الحادث، يريد الرجل إعلامهم أنه لا أرض له، ولن يصلوا إليه، وبالفعل تدخل عِليَة القوم، وضغطوا على جدي الذي أعطاه الفرس كدِية لبعيره.

مرحباً بكم في عالم المستغنيين، إنهم فئة من البشر لا يخشون الخسارة، فليس لديهم من الأساس ما يخسرونه، إنها فئة لا تعرف التراجع، ولا يهمها شيء، باختصار المثال الذي ذكرته كان لمستغنٍ عن الأرض، فهي لا تهمه، وليس له ولاء لأي أرض، عود نفسه على استبدال الأرض بين ليلة وضحاها، فاكتسب قوة - نعم وظفها للشر - لكنها في النهاية قوة واجه بها بمفرده قبيلة قوية كثيرة العدد، لا يخيفها الرجل، لكنهم لديهم ما يخسرونه وهي أرضهم التي يتمسكون بها، ولا يمكنهم تركها والرحيل إذا ما اضطروا لأي سبب.

فئة المستغنين هذه أنواع، فمنهم مستغنون عن العواطف، ومستغنون عن الأرض، ومستغنون عن التكنولوجيا، ومستغنون عن المال، ومستغنون عن المجتمع إلى آخره، حتى نصل إلى المستغنين عن الحياة - ربما هؤلاء أخطر وأقوى المستغنين - والاستغناء قد يكون بالاختيار وهو قليل، وقد يكون بسبب الظروف وقلة الحيلة، وهو الأغلب، وقد يكون صناعة تقف وراءها تكتلات ومحافل ودول، فخلال أكثر من إحدى وعشرين سنة مضت وتحديداً منذ احتلال العراق وما أعقبه من ويلات واجتثاث على أساس طائفي، ثم ما عرف بأحداث الربيع العربي، وما جرى في سوريا وليبيا واليمن ولبنان، صُنع ملايين المستغنين، الذين كانوا في الأصل طبيعيين لديهم ما يخسرونه ويخافون عليه، فوجدوا أنفسهم وسط حكم العصابات التي استنزفتهم ولم تترك لهم ما يخسرونه، فمنهم من رحل، ومنهم من ينتظر، وبعد حين أدركت تلك العصابات أو بالأحرى من يملك أمرها خطورة الموقف، فعملوا على منح من تبقى ما يمكن أن يشعرهم بالخسارة كوظائف حكومية أقصى ما توفره راتباً شهرياً، أو بعض الامتيازات الشكلية لمن يخدمهم ويكون تابعاً لهم، ومع ذلك بقي عدد المستغنين غير قليل، وطبول الحرب الجديدة قرعت وطرفها ليس المستغني طبعاً، وإنما من تسبب بوضعه ومن كبَّده خسارة كل شيء، فالمستغني جالس كحجر صلب في وضع المشاهد، أما تلك العصابات ترتجف خوفاً من خسارة سلطتها وأموالها.

لقد دفن المستغني آماله منذ زمن، وإن كانت له عودة فهي عودة من الرماد، وعلى كل من تسبب في وضعه في هذا الموضع أن يحسب له ألف حساب، لأنه سيكون أمام من لا يخشى الخسارة.

* عميد كلية القانون الجامعة الخليجية