أميرة صليبيخ



أحب مارسيل بروست، ليس لأنه منحنا إحدى أعظم الروايات وأطولها في التاريخ، وليس لأنه كان كاتباً عبقرياً. أحبه لأنه يشبهنا جميعاً، أحب فيه (الإنسان) الذي يحاول النجاة والتعايش مع المعاناة التي جلبتها له الحياة، وقد كانت القراءة والكتب هي طوق نجاته.

فمارسيل بروست كان مصاباً بالربو والتهاب الشعب الهوائية منذ التاسعة من العمر، كما أصيب باضطرابات نفسية وعقلية، وتوقع الأطباء له حياة قصيرة، وخصوصاً في أجواء فرنسا الباردة التي تدّك رئتيه وتضاعف آلامه، لكن الطفل الصغير تمسك بالأمل وانعزل في غرفته يلتهم الكتب، وأصر على إنهاء دراسته الجامعية رغم تعثره الدراسي بسبب المرض، ومن ثم أسس نوادي وصالونات ثقافية ورسخ حضوره البارز في مختلف المحافل الأدبية والاجتماعية بتشجيع ودعم من والدته المحبة.

يقول بروست عن القراءة -وهو مشهور بجمله الطويلة جداً- «قد لا يكون في طفولتنا أيامٌ عشناها بامتلاء إلا تلك الأيام التي اعتقدنا أننا تركناها دون أن نعيشها، تلك التي قضيناها برفقة كتاب مفضل».

فالقراءة بالنسبة له لم تكن هواية، أو وسيلة يُزجي بها الوقت الممل في فراش المرض، بل كانت سبباً في جعل حياته ذات قيمة ومعنى. وكأنه يريد أن يقول إن الأيام التي عاشها بدون كتاب كانت هباءً منثوراً، أو بلغة أم كلثوم (عمر ضايع يحسبوه ازاي عليا)!
إن قدرة بروست على التعايش مع أمراضه العديدة والمزمنة جعلته لا يطيل النظر فيها، بل وجّه تفكيره وطاقته بأكملها في عمل ما يحب. ولو أن شخصاً آخر كان مكانه لمات أسرع منه من فرط التشاؤم والأسى وقلة الصبر وندب الحظ.

وهذا ما أحب في بروست؛ قدرته على تغيير نظرته إلى الأمور وإعادة تشكيل أسباب المعاناة لتكون أسباباً للحياة. فلو جلس يبكي على حاله لما استطاع التأليف ولما كتب رائعته الخالدة (بحثاً عن الزمن المفقود) ولكنه استغل مرضه وعزلته حتى يبدع ويبهر العالم.

يقول أيضاً «القراءة تتمثل، بالنسبة لكلِّ واحدٍ منّا، في الاستمتاع بالقوّة الفكرية التي تمنحها لنا الوحدة». فلم تكن الوحدة بالنسبة له سبباً للتعاسة والشعور بالنقص بل كانت هي كل ما يريده حتى يقرأ ويكتب.

ربما علينا أن نتبنى الفكر البروستي نحن أيضاً، ونغير الطريقة التي ننظر بها إلى الأمور السلبية، وهو الفكر الذي ينادي به الإسلام أساساً بأن نبحث عن جوهر الخير في كل ما نراه شراً.