الحرة

على مدار الشهرين الماضيين، ازدادت التكهنات بشأن مصير زعيم شركة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، بعد أن انقطعت أخباره تماما إثر خروجه من روسيا، نتيجة محاولته التمرد على قادة الجيش، إلا أن فيديو نشره بريغوجين، الإثنين، أثار التساؤلات بشأن ما إذا كان في أفريقيا، كونه ألمح إلى ذلك، وهل يعني ذلك أنه ومرتزقته دخلوا على خط أزمة النيجر؟.

تأتي هذه التساؤلات بشأن مدى نفوذ موسكو في بعض البلدان الأفريقية، في ظل تقارير تحدثت في أوقات سابقة عن شركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هناك، عقب خلافه الخطير مع "طباخه" الذي يبدو أنه قرر قيادة العمليات بنفسه في القارة السمراء، وذلك في حال صحّت تقارير التي تحدثت وجوده في المنطقة الملتهبة.

وكان بريغوجين قد قال في مقطع فيديو حديث، إنه "موجود حاليًا مع مقاتلين تابعين له في أفريقيا، حيث يعمل من أجل الحفاظ على عظمة روسيا"، داعيًا إلى "التطوع معه".

وظهر بريغوجين في هذا الفيديو، مساء الإثنين، لأول مرة منذ أن قرر وقف تمرده ضد الحكومة الروسية في يونيو الماضي. وكان مسلحًا ويرتدي ملابس مموهة في منطقة صحراوية.

وقال في الفيديو الذي بُث على حسابات في تطبيق تليغرام مقربة من مجموعته: "نحن نعمل في درجة حرارة تزيد عن الخمسين مئوية مثلما نحبها تماما.. مجموعة فاغنر تنفذ مهمة استطلاعية، وهذا يعزز عظمة روسيا في جميع القارات ويصون حرية أفريقيا".

وبعد أن قال إن مجموعته تمثل "كابوسًا" لعناصر تنظيمي داعش وتنظيم القاعدة، دعا بريغوجين إلى التطوع في صفوف مجموعته "لتحقيق المهام التي تم تحديدها والتي وعدنا بالوفاء بها".

وأُرفق فيديو زعيم فاغنر برقم هاتف وعنوان بريد إلكتروني، لتجنيد "المتطوعين".



ولم يذكر "طباخ بويتن" في أي بلد هو، فيما تتواجد المجموعة في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، ولكن مجموعة All Eyes on Wagner، وهي مجموعة بحثية مفتوحة المصدر، ذكرت، السبت، أن طائرة مرتبطة ببريغوجين هبطت في عاصمة مالي، باماكو، بحسب صحيفة "غارديان" البريطانية.

بالإضافة إلى وجود فاغنر، تنفذ روسيا حملة دبلوماسية منذ عدة سنوات في أفريقيا على حساب القوى الغربية التقليدية، ومع عزلتها على الساحة الدولية وبحثها عن حلفاء، وقد ضاعفت جهودها بالقارة السمراء منذ غزوها أوكرانيا.

وتحدث بريغوجين بعد تمرده المحدود عبر رسائل صوتية بُثت على تليغرام، لكنه لم يظهر أمام الكاميرا، كما اعتاد أن يفعل عندما كان في أوكرانيا، في حين ما زال حساب خدمته الإخبارية الرسمية "كونكورد" من دون تحديث منذ التمرد، وفقا لوكالة "فرانس برس".

وفي رسالة صوتية في نهاية يوليو، رحب الرجل بالانقلاب في النيجر، وانتقد من أسماهم بـ "المستعمرين السابقين" الغربيين، ووعد بأن فاغنر "قادرة على إرساء النظام وإنزال الهزيمة بالإرهابيين".

"صراع شائك"

وتعقيبا على ظهور بريغوجين، يرى المحلل الروسي، أندريه أنتيكوف، في تصريحات لموقع "الحرة"، أن "تواجد فاغنر في بعض الدول الأفريقية التي باتت حليفة لموسكو، يأتي ضمن اتفاقيات ثنائية تشمل محاربة الجماعات الإرهابية".

وأشار إلى أن وجود فاغنر "لم يتأثر بمحاولة التمرد الفاشلة"، معتبرا أنها "لا تزال متواجدة في العديد من الدول الأفريقية، بما فيها مالي المجاورة للنيجر".

وأضر تمرد فاغنر بهيبة روسيا، وانتهى مساء 24 يونيو باتفاق ينص على مغادرة بريغوجين إلى بيلاروس، فيما خُير مقاتلوه بين الانضمام إليه هناك أو الانضمام إلى الجيش الروسي النظامي، أو العودة إلى الحياة المدنية.

وفي حين استقر بعض مقاتلي فاغنر في بيلاروس، حيث عملوا "مدربين" بشكل خاص لجنودها، لم يكن مكان زعيمها معروفًا بعد.

من جانبها، اعتبرت خبيرة الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أميرة عبد الحليم، في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة"، أن"الظهور الإعلامي الأخير المزعوم لبريغوجين من داخل أفريقيا، يدل على نوع من الصراع الشائك بين موسكو والقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في القارة السمراء".

وتابعت: "تواجد زعيم فاغنر في أفريقيا يعني أن موسكو تحاول أن تؤكد أنها لا تزال في المشهد في تلك القارة، وأنها ممكن أن تحل مكان فرنسا في معظم دول منطقة الساحل، لاسيما أن هناك مظاهرات في النيجر (مؤيدة للمجلس العسكري الانقلابي) خرجت تطالب بالوجود الروسي في البلاد".

"باب التكهنات والاحتمالات"

في المقابل، يرى الكاتب والباحث في الشؤون الأفريقية، محمد تورشين، أن "تواجد زعيم فاغنر بشكل شخصي في إحدى الدول الأفريقية، وبالأخص في مالي، يدخل ضمن باب التكهنات والاحتمالات".

وأضاف لموقع "الحرة": "وجوده أو عدم وجوده ليس بالأمر المحوري، بل أن النقطة المهمة تتمثل في انتشار قواته ودورها الفاعل في العديد من الدول، مثل مالي وأفريقيا الوسطى والسودان وليبيا ومدغشقر وموزامبيق، مما يؤثر على أمن واستقرار القارة الأفريقية".

"فاغنر" في أفريقيا الوسطى

وكانت مجموعة "فاغنر" قد واجهت أكبر تحد لها في أفريقيا منذ التمرد الفاشل لزعيمها، مع مساعيها إلى دعم وحماية رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، المقبل على استفتاء جديد يثير انقسامات كبيرة داخل البلاد.

ودعا الرئيس، فوستين أرشانج تواديرا، إلى استفتاء لتغيير دستور البلاد بما يسمح له بالترشح لولاية ثالثة، مما أثار انتقادات داخلية واسعة في بلد يعاني منذ عقود، من توترات بين السلطة وجماعات متمردة، بحسب صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية.

و"يدين تواديرا ببقائه على قيد الحياة وفي السلطة لمقاتلي فاغنر، الذين وصلوا إلى أفريقيا الوسطى عام 2018، لتدريب جيش بلاده، وإحباط محاولة انقلاب قادها متمردون، بعد ذلك بعامين"، وفقا لنفس لصحيفة.

ومنذ ذلك الحين، "أصبحت جمهورية أفريقيا الوسطى وسيلة لطموحات روسيا الأفريقية ودولة عميلة لموسكو"، بحسب دبلوماسيين غربيين في العاصمة بانغي، وسط تكهنات بأن تواديرا أصبح الآن "رهينة لمقاتلي فاغنر الذين يوفرون له الأمن الشخصي"، بحسب مصادر "فاينانشيال تايمز".

واتُهم المرتزقة الروس بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الجمهورية الأفريقية، بما في ذلك التسبب في "مقتل المدنيين".

وأصبحت قدرة فاغنر على الاستمرار في تقديم "خدمات الأمن" إلى البلدان الأفريقية موضع شك، منذ فشل تمرد بريغوجين.

وفي هذا الجانب، قالت مديرة وسط أفريقيا في مجموعة الأزمات الفكرية، إنريكا بيكو، للصحيفة اللندنية: "لا يزال المتمردون في أفريقيا الوسطى منقسمين للغاية، لكنهم قد يستغلون الفراغ الأمني الذي أحدثته فاغنر لاستعادة السيطرة على بعض المناطق".

وأكد دبلوماسيون ومسؤولون أمنيون في بانغي أن ما بين 200 و600 فرد من فاغنر، قد غادروا جمهورية إفريقيا الوسطى، خلال الأسبوع الأول من يوليو الماضي.

وكان تقرير سابق لوكالة بلومبرغ، قد كشف أن مجموعة فاغنر "ستحتفظ بجزء من أعمالها" في قارة أفريقيا.

ونقلت الوكالة عن مصدرين مطلعين على المناقشات التي دارت خلال الاجتماع بين بوتين وقادة فاغنر نهاية يونيو الماضي، أن "الكرملين سيسمح لبريغوجين بالحفاظ على بعض عملياته المكثفة في أفريقيا، في ظل سعي روسيا لتعزيز نفوذها في القارة الغنية بالموارد".

وقال أحد المصدرين اللذين رفضا الكشف عن هويتهما لحساسية الموضوع، إن "الطرفين توصلا لاتفاق يقضي باستمرار عمليات فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى".

لقاء بوتين وبريغوجين بعد التمرد الفاشل

يأتي ذلك بعد إعلان الكرملين آنفا عن تفاصيل لقاء جمع بوتين بنحو 35 قائدا من فاغنر، على رأسهم بريغوجين، يوم 29 يونيو الماضي، أي بعد 5 أيام من التمرد الفاشل.

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن "اللقاء استمر لمدة 3 ساعات، واستعرض فيه بوتين مع القادة التمرد المسلح والقتال الدائر في أوكرانيا".

وقال بيسكوف: "عرض القادة روايتهم لما حدث في 24 يونيو، وأكدوا أنهم مؤيدون بشدة لرئيس الدولة القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأنهم جنوده الذين يواصلون القتال من أجل الوطن".

ونقلت بلومبرغ عن مصدر آخر مقرب من الكرملين، أنه "بعيدا عن أفريقيا الوسطى، كان بوتين يقيّم خياراته، ومن المرجح أن ينتهي الأمر بالسماح لفاغنر بالاستمرار في عملياتها بأفريقيا، التي تعتمد عليها المجموعة في تمويل أنشطتها، لكن ستكون عملياتهم تحت إدارة مباشرة من موسكو".

وقال الخبير السياسي المقرب من الكرملين، سيرغي ماركوف: "ستبقى فاغنر في أفريقيا بالتأكيد"، مضيفًا أن "القرار الذي يُنتظر تحديده هو، هوية الشخص الذي سترفع إليه المجموعة تقاريرها، سواء بريغوجين أم شخص آخر من الأوليغارش في روسيا".

أزمة النيجر.. ومخاوف من "حرب شاملة"

ومع تطورت الأزمة في النيجر، رأى أندريه أنتيكوف أن "تقلص نفوذ فرنسا في دول منطقة الساحل، قابله ازدياد في تطور علاقات تلك الدول مع روسيا".

واعتبر أن "النيجر تكاد تكون المعقل الأخير المهم لفرنسا في تلك المنطقة، خاصة أنها تعتمد على اليورانيوم المستخرج من مناجم تلك الدولة الأفريقية لتشغيل مفاعلاتها النووية".

وحذر الباحث الروسي من حدوث "حرب شاملة" في النيجر والدول المحيطة بها، الرافضة للتدخل العسكري هناك، مضيفا: " رفض عدة دول مثل مالي وبوركينا فاسو، أي تدخل عسكري حتى لو كان يرتدي ثوب منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، قد يؤدي إلى حدوث حرب شاملة في المنطقة".

وفيما إذا كان حدوث تدخل عسكري في النيجر قد يؤدي إلى مواجهات بين قواتها (إيكواس) وعناصر فاغنر المنتشرة في المنطقة، أجاب أنتيكوف: "الأمور لا تزال غامضة بهذا الشأن، لكن لا يمكن استبعاد مثل هذا الاحتمال، فمؤسسة فاغنر العسكرية لديها اتفاقيات ثنائية مع العديدة من قادة الدول الأفريقية".

وتابع: "نحن لا نعلم تفاصيل وبنود تلك الاتفاقيات بدقة، وهل هي مقتصرة على محاربة الجماعات المتطرفة وحماية المباني والشخصيات المهمة، أم أن هناك نقاطا تتعلق بالقيام بعمليات عسكرية ضد قوات أجنبية، لكن في جميع الأحوال فإن هناك مخاوف حقيقية بشأن حدوث حرب شاملة في منطقة الساحل، تشارك فيها عدة أطراف".

ولا يوجد تواجد لفاغنر في النيجر حاليا، بيد أن مصدرا غريبا ذكر لوكالة "أسوشيتد برس" في وقت سابق، أن "الانقلابيين كانوا قد طلبوا من المجموعة الروسية المساعدة"، موضحا: "يحتاجون (فاغنر) لأنها ستكون ضمانتهم للبقاء في السلطة".

وأوضح المصدر أن المجموعة العسكرية الروسية الخاصة "لا تزال تدرس ذلك الطلب".

وقال مسؤول عسكري غربي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لوكالة "أسوشييتد برس"، إن "هناك تقارير تفيد بأن المجلس العسكري في النيجر، طلب المساعدة من فاغنر في مالي".

وفي نفس السياق، اعتبرت الباحثة عبد الحليم أن "ظهور فاغنر على هذا النحو، مرتبط بشكل كبير في الأزمة الحالية بالنيجر".

وأوضحت: "يبدو أن الأيام المقبلة ستشهد تطورات في الأزمة بالنيجر بعد عودة فاغنر للظهور، خاصة بعد أن كان المجلس العسكري قد أبدى بعض المرونة، من خلال رغبته في الإذعان لبعض مقترحات منظمة إيكواس فيما يتعلق بالعودة إلى النظام الدستوري، لكن المنظمة الإقليمية ترفض أن تكون المدد الانتقالية طويلة بحيث تصل إلى 3 أعوام".

وتابعت: "هذه التطورات مرتبطة بوجود قوات فاغنر في دول منظمة إيكواس التي حدث فيها انقلابات عسكرية مثل مالي وبوركينا فاسو ومن ثم النيجر، وإذا كانت الولايات المتحدة لا تؤيد التدخل العسكري في الأخيرة، فإن فرنسا تدعمه بشدة، ولكن الغرب بشكل عام يميل إلى العودة إلى النظام الدستوري".

أما تورشين فيعتبر "تواجد فاغنر في دول مجاورة للنيجر، مثل مالي، سيكون له آثار وتداعيات خطيرة على الأزمة في ذلك القطر الأفريقي الفقير".

ولفت إلى أن "تواجد فاغنر يؤثر على سلامة ووحدة مواقف دول منظمة إيكواس، موضحا أن مالي وبوركينيا فاسو اللتين وقع فيهما انقلابات عسكرية، هددتا بأن أي تدخل في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب عليهما".

وتوقع تورشين أنه "في حالة استمرت الأمور في التصعيد، فإن فاغنر قد تتورط في الصراع العسكري الذي قد ينشب في المنطقة، رغم أن روسيا غير متورطة بشكل مباشر في تلك الأزمة، وبالتالي ترى الولايات المتحدة أن ممارسة ضغوط أقسى على المجلس العسكري في النيجر، قد يدفع الأخيرة إلى التصلب والتحالف والتعاون بشكل وثيق مع موسكو".

وخلص إلى القول إن "المشهد في النجير حاليا معقد جدا"، مضيفا: "لذلك تسعى واشنطن إلى إيجاد صيغة جديدة لإنهاء الأزمة هناك بشكل سلمي، وأن تكون هناك حكومة ديمقراطية ونظام ديمقراطي، سواء بعودة الرئيس المعزول محمد بازوم، أو بانتخاب رئيس آخر".