منذ فترة، استمعت إلى قصّة ملهمة -عبر إحدى المنصّات المشهورة- لا يزال صداها يتردّد في ذهني، خاصّةً ونحن نرحّب بعودة معلّمينا وقادتنا التربويّين المتفانين للعام الدراسيّ الجديد 2024-2025. كانت قصّة رائعة لمعلّم في مدرسة بوز الابتدائيّة «Boze Elementary School»، في مدينة تاكوما بولاية واشنطن الأمريكيّة.

فقد قدّم المعلّم مبادرة أشعلت خيال طلّاب الصفّ الخامس الابتدائيّ، وهم يقضون عامهم الدراسيّ يخطّطون لبدء حضارة جديدة في كوكب بعيد للحفاظ على الأجيال القادمة، حيث كلّف المعلم الطلّاب بتصوّر رحلة طويلة عبر مركبة متعدّدة الأجيال، وهو مشروع يتطلّب منهم التفكير الناقد والعمل التعاونيّ والانخراط في التعلّم العميق.

ما لفت انتباهي حقّاً هو الطريقة الّتي نسج بها المعلّم نسيجاً نابضاً بالحياة بدمج مختلف التخصّصات بسلاسة - العلوم والرياضيّات والتاريخ والدراسات الاجتماعيّة- في تجربة تعليميّة ديناميكيّة قائمة على المشاريع. لم يكن الطلّاب يتعلّمون المفاهيم فقط، بل كانوا يعيشونها، ويطبّقون معرفتهم المكتسبة حديثاً على سيناريوهات العالم الحقيقيّ، من حساب القوى العاملة المطلوبة لبعثة فضائيّة إلى تصوّر مجتمع مزدهر وحضارة مستدامة خارج كوكبنا، كان الطلّاب يفكّرون يحلّلون يخطّطون ويهندسون. ولإضفاء الحيويّة على النظريّات، لم يتوقّف المعلّم عند باب الفصل الدراسيّ؛ فقد أحضر المهندسين والمتخصّصين والجيولوجيّين لمشاركة الطلّاب خبراتهم وتزويدهم بالاستشارات اللازمة حول مشروعهم، بل وجد الطلّاب أنفسهم يجلسون في مركبات فضائيّة فعليّة في متحف الطيران الذي صحبهم المعلم إليه. هذا النهج الغامر والعمليّ عمّق فهم الطلّاب، وأثار فيهم أيضاً شعوراً بالاندماج والإمكانات غير المحدودة. كان الأمر أكثر من مجرّد تعليم، بل كان دعوة إلى تخيّل المستقبل وصنعه.

ومع تتويج مشروعهم بمعرض تعليميّ أُقيم لسكان الحي الذي تقع فيه المدرسة، قدّم الطلّاب أعمالهم، وكان الفخر والشعور بالإنجاز على وجوههم واضحاً، أذهل ذلك الحضور بمن فيهم أولياء الأمور. أدرك المعلّم عندها، وهو يشاهد طلّابه الّذين يبلغون من العمر عشر سنوات يتحدّثون بثقة عن المفاهيم المعقّدة، أنّه نجح بالفعل في زرع بذور التعلّم في طلابه وتعزيز قيم التعاون والبناء ومهارات التفكير والابتكار لديهم.

تعكس هذه القصّة، رغم أنّ أحداثها تدور في جزء مختلف من العالم، جوهر ما نسعى له في نظامنا التعليميّ بمملكتنا الحبيبة. بينما نبدأ عاماً دراسيّاً جديداً، نتذكّر القوّة المذهلة للتعليم القائم على الرؤية، ذلك النوع الّذي لا يكتفي بنقل المعرفة فقط، بل يُلهم الطلّاب أيضاً للاستكشاف والتساؤل والابتكار. معلّمونا هم حملة شعلة هذه الرؤية، وتفانيهم اليوم هو ما سينير الطريق غداً لأجيالنا القادمة.

يأتي هذا العام الدراسيّ بتحدّيات جديدة، وخاصّة في ظلّ التطوّرات الهائلة في دمج التقنيّات الجديدة والذكاء الاصطناعيّ، والّتي بدورها تمهّد الطريق لإحداث تحوّلات كبيرة في طرق التعلّم وتبنّي الأساليب والاتّجاهات الحديثة في طرائق التدريس، وتوفّر في الوقت ذاته فرصاً مثيرة لإثراء التجربة التعليميّة.

وبينما نستهل هذا العام الدراسي الجديد، نرفع أسمى آيات الشكر وعظيم الامتنان إلى مقام حضرة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه اللّه ورعاه، على توجيهات جلالته المستمرّة بتعزيز وإثراء المسيرة التعليميّة ومواصلة الارتقاء بمخرجات التعليم، وإلى صاحب السموّ الملكيّ الأمير سلمان بن حمد آل خليفة وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه اللّه، على دعمه ورعايته المتواصلين للمبادرات والبرامج التعليميّة الّتي تنفّذها وزارة التربية والتعليم، كما نقدّر ونثمن عالياً ما يبذله سعادة وزير التربية والتعليم وجميع العاملين في قطاع التعليم والهيئتين التعليميّة والإداريّة بالمدارس الحكوميّة والخاصّة، من جهودٍ وطنيّة مخلصة نحو الإنجاز والتميّز لبناء جيل المستقبل المتسلّح بالعلم والمعرفة والمواطنة الصالحة، والّتي بهم ستتحقّق الأهداف المرجوّة لمملكتنا الغالية.

مع تمنّياتنا لأبنائنا الطلّاب والطالبات وللجميع عام دراسيّ حافل بالإنجازات والتميّز والعطاء.